رام الله- قدس الإخبارية: "رياض" يسلّم الملعقة لـ "أمجد"، "لقد جاء دورك، التُربة هنا مساعِدة، فشدّوا العزم"، ضربةٌ خفيفة هنا على الجانب، ينهار الرمل، يجمعه "خالد" في كيسٍ ويخبأه تحت "البُرش"، ثمة جنود يحومون بالقرب ويراقبون كلّ نملة.
كان الوقت في سجن "عوفر" غرب رام الله، يسير بطيئًا، بينما يَعدُّ الشبان الثلاثة، الثواني، ويصلون الليل بالنهار، يحفرون نفقًا بـ "الملاعق"، طوله 15 مترًا، نجح في نقلهم من "خيام الأسرى"، إلى "بوابة الحرية المشتهاة".
كانت تلك إحدى مغامرات السجن التي عايشها الأسير المحرر "أمجد الديك"، مع رفيقيه "رياض خليفة وخالد شعث" –قبل استشهادهما-، هربًا من جحيم السجن وعذابات التحقيق، التي ما يزال يعيشها 5 آلاف أسير فلسطيني في السجون الآن.
أمجد يرفض "ذلك كلّه"
بدأت "المعركة"، عندما اُعتقل "أمجد" وهو في سنته الجامعية الثالثة، على إحدى حواجز الاحتلال التي تفصل بلدته كفر نعمة عن مدينة رام الله، 2001م، وتعرض لتحقيق قاسٍ استمر 65 يومًا، وصفه بقوله: "إنه الجحيم بعينه، قطعوا عنّي الماء، وطعام أكثر من رديء، إضافة إلى تعذيب نفسي أكثر من الجسدي، ذل وحرمان، وتهديد بالعائلة".
لقد شكلت بداية الاعتقال صدمة لابن العشرين آنذاك، وانتقالة جديدة من الحياة الجامعية والحدائق والمكتبات، إلى "الزنازين وغرف الأسر وساحات الفورة بالموعد المحدد"، تغيّر فيها شكل حياته بالمجمل، لكنّ شيئًا واحدًا ظل في داخله لا يتبدل، "أن يرفض ذلك كلّه".
وبرغم عذابات الأسر ومشاقه، لكنهم تشاركوا فيه مواقف حلوة ومرّة، فكان أصعبها –كما وصفها أمجد-حين يكون أحد الأسرى مريضًا وتشعر أنك غير قادر على مساعدته، وأسرى فقدوا أحبتهم، أحدهم فقد أمّه، وضربتُ أنا رأسي في الباب، قهرًا وكمدًا، لا شيء نفعله أمام الموت والقهر!، يستذكر أمجد.
"الضحكات شريكة الدمعات، هذه هي الحياة"، طبقها أمجد، وما زال حتى الآن كلما تذكر موقف "الفلفل الغزاوي" ضحك كأنها المرة الأولى للحدث، فهذا أحد الأسرى تحدى الأسير علاء أبو عادي من رام الله، بأن يأكل 5 قرون من الفلفل وقال له: "بعطيك 200 شيكل إذا بتاكلهن ورا بعض"، قبل التحدي، لكنه ومع اللقمة الأخيرة وقع ممددًا على الأرض وهو يصرخ، وانفجر الأسرى ضحكًا: "مش قد الفلفل ليش توكلوه؟!، سيبوه للغزازوة".
أما المقلوبة التي حاول أحد الأسرى ابتكار حركة "فهلوة" في قلبها، فرفعها على رأسه، لكنها انقلبت عليه وتناثر الأرز من حوله، وكانت ردة فعل الأسرى ساخرة عليه: "خليك زي ما انت، بنيجي ناكل عن راسك".
"لازم نطلع من هان"
لم تغب الصحبة الطيبة عن مجالس الأسرى، حتى جمعته خيمة سجنه بـ "رياض خليفة" من رام الله أيضًا، ومعهم "خالد شعث" من بيت لحم، وجهرت الألسن بـ "الفكرة السريّة" في عقل كل منهم، وببال كل من يمرّ على هذا المكان، لقد قالوها معًا: "لازم نطلع من هان".
كمن يعقد اجتماعًا للقمة، تباحثوا أمرهم، كانت المشورة للعقل، وللإمكانيات أكثر، يسترجع أمجد: "ربما كان الأمر مستحيلًا، فلا أدوات تساعد في التنفيذ، وعيون المراقبة طيلة الوقت، إضافة إلى الطابور الصباحي والعد والدهم المفاجئ، وكل ما يتوفر لدينا، ملاعق وأداة وحيدة حادة، وأظافرنا"، مستدركًا: "لدينا إرادتنا أيضًا".
"لما نُحبط ونقول القصة صعبة، نتذكر إنه مفش أصعب من اللي احنا فيه، ولا أقسى من السجن، وظروفه"، قالها أمجد، متابعًا: "كنتُ أتذكر ذلك مع كل "نبشة اظفر" في الأرض، وأعرفُ أن الإنسان الحر يرفضه بالمطلق، ويفكر كل ثانية بالخلاص من هذا الواقع، حتى لو كان مستحيلًا وجنونيًا".
وفي إحدى نهارات نيسان/ابريل، شرعوا بالتنفيذ، ومع كل ضربة "ملعقة" في الأرض، كان الأمل يتسع في القلب، مناوباتٌ على الحفر، أحدهم على المراقبة، وثالثهم يستلم الرمل فورًا ويخفيه في كيس أسفل "البُرش/ السرير" ويغطيه، 17 يومًا مرّت على هذا الحال.
في الثاني عشر من أيار/مايو 2003، سار "رياض" في المقدمة، عابرًا النفق الأول والأخير في حياتهم، فحص الطريق، من أوله وحتى آخره، وكم يستغرق السير 15 مترًا ذهابًا وإيابًا، طمأنهم: "الأمور تمام شباب، اليوم على بركة الله".
"لقد كان عرض النفق أقل من متر وارتفاعه أقل من 30 سم، وبنهايةٍ ضيقة عند آخره، بشكلٍ متعمد، لأن الحفر سيمر أسفل السور الخارجي للسجن، وكان من الضروري ألا تُحدث انهيارات أو تؤثر على الأعلى فينفضح الأمر، كما يستلزم على الشبان الثلاثة المتقاربين في البنية الجسدية النحيلة نوعًا ما، أن يزحفوًا تباعًا عبره، وصولًا إلى آخره الذي يتجاوز جدار السجن بقليل.
"لقد تعبنا جدًا في الخروج، لكننا نسينا أنفسنا عندما أخذنا نفسًا واحدًا خارج السجن، لقد صنعنا أول انتصارٍ لنا، أسعد لحظة في حياتي على الإطلاق حينها، الصدمة عكسية الآن، فالمفارقات التي عشتها في بداية الاعتقال، عادت إلى أصلها وأكثر"، يتابع أمجد.
في اللحظة ذاتها، يستذكر أمجد التساؤلات التي دارت في باله: " يا الله، معقول إحنا برّا؟، الدنيا انقلبت خلال ثوانٍ فقط! كنا بالسجن وأصبحنا خارجه، زال تعب الأيام وقلق الليالي الطوال، وجهود الوقت الممتلئ، حيث 24 ساعة من الحفر باليد!".
7 شهور من الحريّة
"قطعنا مسافة جيدة بدون أن يُكشف أمرنا، إدارة السجون عرفت في صباح اليوم التالي وخلال الطابور والعد أننا هربنا، أي بعد ساعات على نجاحنا في الخروج من السجن، كنا قد وصلنا خلالها إلى جبال رام الله، حيث البلاد التي نعرف ونمتلك"، يحدثنا أمجد.
المغامرة لم تنتهِ بمجرد نجاحهم بالهرب من السجن فحسب، لقد انتقلوا من حياة الأسرى إلى حياة المطاردين، وانتقلوا إلى الجبال، فأمجد يرافق مغارة، ورفيقه "رياض" ينام في أخرى، وهكذا بدون تحركات كثيرة ولا لقاءات حتى بأقرب الناس لهم.
الجميع مطاردٌ الآن، وحتى عائلاتهم مراقبة، وهو ما يحظر بالتالي أي فكرة للقاء أحدهم بوالدته أو ذويه، باستثناء "رياض"، الذي تزوّج في المغارة، حبًا في "فاطمته" التي أحبته كثيرًا، وردًا لإخلاصها في انتظاره، وهما على ذمة "خطوبة" لم تكتمل قبل الاعتقال.
يصمت برهة ويكمل: "افترق عنا خالد، في مكان آخر بعد 3 أيام، لكنه اعتقل في اليوم السادس لحريتنا المشتركة، وبقينا أنا ورياض وزوجته فاطمة، ولا أحد في الدُنيا سوانا، نعيشُ شهورًا في الجبال، حيث متعة لم أشعر بها من قبل، عِزة مصحوبة بفخر، وإحساس عظيم بأننا -علّمنا على إسرائيل- وبندوّخ جيشها، وطائرات "الدرون" بتدوّر علينا".
في ليلة الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الثاني، حاصرت قوات الاحتلال وآلياته، المكان الذي يسكنه "رياض"، واندلع اشتباك مسلح حتى الرصاصة الأخيرة التي أعلنت عن استشهاده، بعد اكتشافهم قرب قرية كفر نعمة، وقد عُرف بصفته قائدًا لسرايا القدس في منطقة رام الله حينها.
وانتهت حريتهم المؤقتة، بعد وقتٍ قصير، بإعادة اعتقال "أمجد" على بعد عشرات الأمتار من المعركة، وعقب 7 شهور انتزعها من سجانه، ليعيشها عمرًا بهيًا في الحرية، ويرآها "أغنى تجربة في حياته".
صاحب الكرت الأحمر
العودة للسجن كانت آخر ما أراده أمجد، قائلًا "من أشد ما يلقى الإنسان، هو التحقيق بعد الهروب، فضباط الاحتلال يتنافسون في الضغط والعقاب والتعذيب، وكانت كل الأسئلة حينها كيف استطعت أن تهرب؟! كيف فعلتها؟، وسط صراخ من المحققين الذين كادوا يفقدون عقولهم بدون إجابات".
حتى بعد 10 أيام من انتهاء التحقيق، ومعاودة التقاء أمجد بخالد، في السجن مجددًا، لم يكونا ليستوعبا الفقد، وفراق "رياض" عنهما، تحشرج الصوت: "استوعبتُ كل شيء، حتى الرجعة للسجن، لكن ما تخيلت فراقه، كنا سوا لحظة بلحظة، 24 ساعة مع بعض، مش قادر أستوعب معقول استشهد؟ يعني خلص مش هنشوفه؟ لمين خلّانا؟ ولمين ترك فاطمة؟".
مُنح الديك، بطاقة حمراء – وهي بدرجات متفاوتة من الخطورة-كانت تُعرّف عنه في كل السجون بأنه شخص خطير جدًا، وهي خاصة لكل من حاول الهرب أو نفذ عملية هروب، ويحملها نحو 100 أسير فلسطيني متهمون بمحاولة الهرب، من بينهم أسرى اتهموا بحفر نفق أسفل مرحاض في سجن "جلبوع" العسكري شمال فلسطين المحتلة عام 2014.
ويروي أمجد، بأنّ البطاقة الحمراء جعلت منه أسيرًا "غير عادي"، حيث توضع على واجهة ملفه عند الانتقال من سجن لآخر، للتحذير من خطورته، وهي تتضمن أيضًا الانتقالات المستمرة بحيث لا يقبع في سجن واحد أكثر من عام، وأقل من 6 شهور في القسم، وإجراءات متفرقة للعزل والبوسطة تكون منفردة، تقييد بالسلاسل وقت الزيارة، تفتيش أدق لغرفته وسريره كل أسبوع تقريبًا".
أعيد إلى أمجد الحكم السابق، إضافة إلى عقوبة الهرب، بما مجموعه "16 عامًا" من الاعتقال، وإجراءات الكرت الأحمر طيلة المدة، قال هو يشدّ عصبه: "برغم الإرهاق والمشقة، كانت تحدٍ ومكابرة".
لم يسمح لليأس أن يتخلل في ثنايا روحه، فالأكل الصحي كان نمط حياته، بدون تدخين ولا مشروبات غازية ضارة، وبلا معلبات، مع استمرار الرياضة والمحافظة على النظافة الشخصية، إضافة إلى صحته العقلية والنفسية، إذ كان دائم القراءة، وقد نال شهادة البكالوريوس في تاريخ الشرق الأوسط من جامعة الأقصى بغزة، خلال سجنه.
"قبل موعد الإفراج بقليل، بدأت تتشكل لديّ أمنيات وأحلام، وأقول في خاطري، غدًا سأفعل كذا، وسأرى وسيحدث، لكنّ غصّة جديدة ابتدعها الاحتلال أبطلت كل هذا، حينما أضاف الاحتلال لحكمي 8 شهور وغرامة 50 ألف شاقل، بدعوى حيازة جهاز اتصال داخل المعتقل"، يستدرك أمجد: "متعمدين يقتلوا فرحتنا".
اليوم، وبعد مرور 16 عامًا على حادثة الهرب، يتنشق "أمجد الديك" نسيم الحرية في رام الله، لكن عقله زاخر بالذكريات لرفاق الأسر ومواقفهم، ولا زال يضحك ويبكي شوقًا وحبًا، فيما تتحقق أحلامه بالزواج والاستقرار، ومعاودة الدراسة لتخصص "التجارة" في بيرزيت، الذي تركه قبل اعتقاله الأول، مرددًا جملته الشهيرة: " إن الليل زائل"، و"الحياة معركة".