من "الجناح المسلح" إلى "جيش حماس" فيما يُحيي الفلسطينيون والإسرائيليون الذكرى السنوية الخامسة لحرب غزة الأخيرة في صيف 2014، جاء لافتاً أن الجيش وأجهزة المخابرات الإسرائيليين لم يعودا يستخدمان مصطلح "الجناح العسكري لحركة حماس"، بالإشارة لكتائب عز الدين القسام، بل "جيش حماس".
يأتي الانتقال الإسرائيلي في المسميات العسكرية بالنظر إلى أن حماس طورت قدراتها العسكرية، وأصبح لديها قوات نظامية واحتياط ووحدات نخبة، ومقاتلون بحريون وبريون، وأسلحة متطورة كالطائرات المسيّرة المتفجرة؛ ولذلك اضطر الجيش الإسرائيلي إلى تغيير أساليبه الأمْنية والعسكرية لمواجهة الجيش الناشئ في غزة، ويقدر عدده بعشرات آلاف المقاتلين.
تتساءل السطور التالية عن أسباب الخطوة الإسرائيلية باعتماد المصطلح الجديد، وبماذا يختلف عن المصطلح المألوف؟ وكيف سيتغير التعامل الإسرائيلي معهما؟ وهل تتصرف حماس مع جناحها العسكري وفق مسمى الجيش، مع ما يتطلبه من استعدادات وتجهيزات لوجستية؟ ربما يكمن السبب الرئيس في إقدام إسرائيل على خطوة تغيير مسمى جناح حماس العسكري إلى جيش حماس، أنها نجحت، أي حماس، باستعادة قوتها العسكرية إلى الأيام الأولى التي سبقت حرب الجرف الصامد، رغم كونها في الوقت ذاته لا تنجح في التزوّد بالوسائل القتالية بكميات كبيرة، ولذلك شرعت في إنتاج وسائل قتالية محلية.
لكن التقييم الإسرائيلي يرى أن حماس تخطط للقتال وفق مديات استراتيجية وتكتيكية، وتدرب قواتها وكتائبها النظامية والنخبة، لتنفيذ عمليات أرضية وبرية وبحرية تستخدم مختلف الوسائل القتالية كالطائرات المسيرة. ورغم أن الجيش الإسرائيلي قد نفذ 14عملية عسكرية واسعة بين 2006-2019 لوقف تمدد حماس العسكري، إلا أن ذلك كان دون جدوى.
يعتقد الإسرائيليون أن "كتائب القسام" أو "جيش حماس" باتت قوة فاعلة ومؤثرة، وخصماً حقيقياً للجيش الإسرائيلي في الحروب الثلاث الأخيرة على غزة، بعدما تعاظمت قوتها بشكل كبير ولافت؛ حيث تمتاز الكتائب بتماسك بنيانها التنظيمي، ورؤيتها المتزنة، وثقل فعالياتها على الأرض، مما حفر لها مكانة بقلوب الفلسطينيين، وبوّأها موقعاً ريادياً في حقل العمل المقاوم، وجعل منها لب المعادلة الكفاحية في السعي نحو التحرر والاستقلال.
شكّل التصنيع العسكري في الكتائب ميزة خاصة انفردت بها عن بقية الأجنحة العسكرية للمقاومة، كتصنيع الصواريخ والقاذفات، والعبوات الجانبية والأرضية الكبيرة جداً، والقنابل اليدوية الفعالة، والعبوات المضادة للأفراد، وإنتاج جميع أنواع المتفجرات بشكل عام.
يوثق الإسرائيليون أنه خلال الحروب الثلاث التي خاضتها حماس في غزة ضد الاحتلال الإسرائيلي في أعوام: 2008 ،و 2012 ،و 2014، بدت الكتائب، أو جيش حماس، أكثر ثقة بقدراتها، وإصراراً على مواصلة مسيرتها، واستعداداً للتعاطي مع المعطيات، والتكيف مع المستجدات.
لا يُعرف، على وجه الدقة، عدد عناصر كتائب القسام، لكن التقديرات الفلسطينية والإسرائيلية تقدر أن عددهم يصل إلى 40 ألف مقاتل، تتراوح أعمارهم بين 18-45 عاماً. وتتميز بوجود ألوية وكتائب ووحدات خاصة داخلها في محاكاة للجيوش النظامية، وتملك شبكة أنفاق في غزة لا يعرف الكثيرون أين تبدأ وأين تنتهي، ونفذت في تلك الحروب سلسلة من عمليات التسلل خلف خطوط الجيش الإسرائيلي.
مثّل التطور اللافت لمختلف جوانب أداء القسام، الميداني والعسكري والأمني والإعلامي، في السنوات الأخيرة نقطة ارتكاز في تطور مشهد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فضلاً عن الإعداد الميداني للمواجهة في كل لحظة الذي مثّل أيضاً نقطة فارقة لتحقيق مكون جوهري في رسم معادلة الصراع.
وقد شكّل القتال الميداني للقسام خلال الـ51 يوماً في الحرب الأخيرة الاختبار الحقيقي لتعاظمها، وفرضها معادلات جديدة، وتحقيق متغيرات مهمة.
وفي جزء من مكونات بناء القوة العسكرية لحماس، يلاحظ أن هناك عملية إنضاج بشكل يضاعف من التهديدات التي تفرضها على إسرائيل، وتتضمن قدرات محسّنة على تنفيذ العمليات النوعية، ويمكن قراءة أداء القسام بشكل موضوعي، ودراسة التطور الذي طرأ على الجانب الميداني. تتمتع كتائب القسام بهيكل هرمي، ومستوى تدريب جيد، وتشكيلات عسكرية وتخصصات متنوعة، وتتكون من 6 ألوية، يضم كل لواء 5 آلاف مقاتل، ويضم ما بين 4 و5 كتائب، ويقدَّر عدد عناصر القسام بـ40 ألف مقاتل، يتوزعون على العديد من الوحدات والكتائب التي تنتشر في قطاع غزة، لكل وحدة مهام معينة مناطة بها، ومواقع تعمل انطلاقاً منها.
كما يركز الأداء العسكري للقسام على القدرة البرية للدفاع، وصد توغلات جيش الاحتلال، وتحسين القدرة الصاروخية، وتوسيع نطاقها.
وواجهت الكتائب ميدانياً صعوبات جمَّة، لكن الصمود الشعبي والمقاوم منع حالة الانكسار، رغم فداحة الثمن.
اعتقد الجيش الإسرائيلي قبل عدوان 2014 أن خبرة مقاتلي القسام ضئيلة في القتال، لكن ما وقع على تخوم غزة أظهرهم نخبة محترفة جريئة مبدعة، ويمكن اعتبارهم من الأكثر حرفية. ومنحتهم الجرأة المتناهية والإقدام الفدائي اللذان تميزوا بهما صورة جسّدت ملامح جديدة، برزت في اقتحام بعض المواقع، والإجهاز من نقطة صفر على جنود النخبة، والتسلل خلف خطوط العدو، وأسْر جنوده، وحرب الأنفاق الشرسة، مما منحهم امتيازاً غير مسبوق، وصورة غير معهودة.
من الوحدات المهمة جداً لكتائب القسام وحدة الإسناد والإمداد والتموين التي تُوفر الدعم اللوجستي للكتائب المنتشرة على حدود القطاع من سلاح وذخيرة وغذاء وأدوية ووقود، ووحدة الإشارة والاتصالات.
ومركز القيادة والتحكم الذي يقوم بتوزيع المهام ونشر التعميمات، والقيام بالحرب الإلكترونية كالتشويش على المحطات الفضائية الإسرائيلية، واختراق الترددات العسكرية والمواقع الإلكترونية، وبدا واضحاً مستوى السيطرة والتحكم لدى القسام في العدوان الأخير. هذه التطورات الميدانية التي طرأت على كتائب القسام، وما باتت تسميه إسرائيل "جيش حماس"، دفعت بالأوساط العسكرية الإسرائيلية لإجراء سلسلة مناورات تحضيراً لانطلاق الحرب القادمة ضد حماس في غزة، حيث أجرت العديد من الفرق والألوية تمارين لمحاكاة سيناريو الحرب القادمة في القطاع على خلفية التهديدات المتوقعة في هذه الجبهة القتالية.
ولعل أخطر الدروس الإسرائيلية التي تم استخلاصها من حرب غزة الأخيرة، استعداداً لحرب جديدة ضد "جيش حماس" أن سلاح الجو سيقصف في المرة القادمة مباني مقاتلي الحركة عندما يكونون بداخلها، وليس عندما تكون فارغة، مما يعني أن المواجهة المقبلة في غزة ستختلف عن الجرف الصامد، تحضيراً لوصول القوات فيها إلى عمق المناطق الفلسطينية.
وضعت قيادة الجيش الإسرائيلي ثلاثة أهداف أساسية من المعركة المقبلة في غزة أمام جيش حماس؛ أولها قتل أكبر عدد ممكن من مقاتلي حماس، وفي فترة زمنية قصيرة، وبأعداد لم يعهدها الجيش الإسرائيلي من قبل، وثانيها تنفيذ عمليات تدمير واسعة للبنى التحتية للمنظمات الفلسطينية في غزة، وثالثها توسيع وتعظيم عمليات الهجمات الجوية والبرية والبحرية.
يعترف الإسرائيليون أن "جيش حماس" وضع أمامهم تحديين جوهريين: أولهما النقل الدائم للمعدات، وهي تجربة اكتسبتها الحركة لمنع استهدافها وتدميرها من الجيش الإسرائيلي، من خلال الحركة الميدانية السريعة كونها تخوض حرب عصابات، مما يضع صعوبات جمة أمام الاستخبارات الإسرائيلية، فضلا عن القوة النارية التي تسعى لأن تكون دقيقة في استهدافاتها الميدانية على طول مناطق القطاع.
أما التحدي الثاني فهو العالم التحت-أرضي في غزة، وهي ليست الأنفاق الهجومية التي تخترق الحدود بين غزة وإسرائيل، وأوجد لها الجيش حلولاً هندسية وتكنولوجية لإحباط جهود جيش حماس، وإنما الأنفاق المنتشرة في المناطق الفلسطينية داخل غزة، التي تنقل الخلايا المسلحة من مكان لآخر، وتخفي العبوات الناسفة، وتطلق القذائف الصاروخية، وتستخدمها كمواقع قيادة وسيطرة وتحكم.
يعتقد الإسرائيليون أن أجندة الحرب القادمة لمواجهة "جيش حماس" يجب أن تمر بعدة مراحل: أولها عزل مناطق قطاع غزة بصورة مجزأة، وإغلاق نقاط الانسحاب أمام مقاتلي حماس، وثانيها الدخول بصورة مكثفة داخل هذه المناطق، بما في ذلك مدن غزة وخانيونس ورفح، وتدمير معاقل حماس، وهما مرحلتان تستغرقان أسابيع معدودة، أما ثالثها فهي البقاء في تلك المناطق لاستكمال عملية تطهيرها بالكامل، مستعينة بما لديها من معلومات استخبارية.
وهكذا يعد الجيش الإسرائيلي جنوده للتصدي لجيش حماس بالاستعداد لتنفيذ عمليات هجومية، وليس دفاعية، بعد تحليل وضع حماس العسكري استناداً لثلاثة معايير:
أولها القذائف الصاروخية التي بحوزتها، وباتت أكثر دقة وثقلاً، وثانيها الأنفاق الدفاعية التي شرعت حماس بإعدادها منذ سنوات، ولو نجحت إسرائيل بتدمير شبكات الأنفاق الهجومية على حدودها، فلا يعني توقف تهديدها، لأن الأنفاق الداخلية في غزة تحت المنازل والمناطق المفتوحة ليست أقل خطراً وحساسية، وثالثها القتال تحت الأرض، وهو أكثر ما تجهزه الحركة للحرب القادمة ضد العدو الصهيوني.