لماذا لا يوجد حملات مُقاطعة شعبية في العالم - خاصة في الغرب - للبضائع والشركات الايرانية رغم كل هذا الاعلام المُعادي والمصبوب يومياً فوق رأس ايران؟ لماذا لا يقاطع المواطن الفرنسي أو الطالب الايرلندي الجامعات والشركات والبضائع الهندية و الباكستانية او البضائع السورية؟ ألا يوجد انتهاكات لحقوق الانسان في تلك البلدان؟ لماذا "اسرائيل" وحدها دون غيرها تتعرض لحملة شعبية دولية لمقاطعتها وسحب الاستثمارات من اقتصادها والمطالبة بفرض العقوبات عليها ؟ وأصبحت "اسرائيل" هدفًا يوميًا معلنًا لمئات النقابات والجمعيات والحركات الطلابية والاجتماعية والاحزاب حول العالم، حملة تنتشر بسرعة، بوتيرة تؤرق قادة الكيان الاسرائيلي وتقلق راحة أنصاره وحُلفائه في العالم، خاصة في الولايات المتحدة.
الاسئلة أعلاه، كُلها، هي أسئلة العدو اليومية بامتياز. الاسئلة التي ترميها مُنظمات الحركة الصهيونية في وجه أنصار فلسطين ومن يدعون لمقاطعة الاحتلال في الجامعات والنقابات والمؤسسات الثقافية والاكاديمية وحتى الشركات. إذ كلما اتسعت دائرة الحملة الدولية الشعبية الداعية لسحب الاستثمارات من اقتصاد العدو وفرض العقوبات عليه، كلما أكثر الصهاينة من اجترار التُهم الجاهزة والمعروفة سلفًا عن "معاداة السامية" و "محاولات نزع الشرعية عن إسرائيل" فزّاعات قديمة بالية لم تعد تؤتى ثمارها أمام عالم جديد من التقنية، يرى ويسمع ويتواصل بسرعة ويتفاعل مع الصورة والخبر وأمام عالم يتحول إلى عصر لم تعد فيه الولايات المتحدة الامريكية القطب الأوحد والمقرر الأول والأخير .
سؤال نزع الشرعية، سؤال لا يعرفه الايرانيون ولا المصريون. لا يوجد دولة (عادية) تسأل عن شرعية وجودها. نقصد أي دولة طبيعية تنتمي إلى فضاء حضاري وثقافي واحد في محيط جغرافي متجانس. يمكن لدول واحدة، أو محاور دولية متعددة، أن تخوض صراعاً مع دولة أخرى لأسباب اقتصادية وثقافية وقانونية وحدودية، ولكن لن يزعم أي منها أن الأمر يتعلق بـ "نزع الشرعية " لأن الشعوب والكيانات السياسية لا تخاف من نزع شرعيتها. ربما يمكن الحديث عن شرعية حكومة ما، أو شرعية حزب ما، وشرعية رئيس أو ملك، لكن لا حد يتحدث عن شرعية الصين أو شرعية السودان مثلاً!
الاستثناء الموجود لهذه القاعدة هي دول الاستيطان الاستعماري السارقة لارض وخيرات السكان الاصليين والتي تحتل ارضهم بالقوة، وهذه الدول معروفة بالاسم، يقف على راسها الكيان الصهيوني في فلسطين، فلا غرابة ان تتحالف "واشنطن" و "اتاوا" و "كيربري" مع الكيان الاستيطاني العنصري اللاطبيعي، لأنها دول مصطنعة، لا تنتمي للمنطقة، ولا هي جزء من الوعاء الثقافي والحضاري ، موجودة بفعل القوة والسلاح من خلال نفي الطرف الاخر ، السكان الاصليين . ومن الطبيعي جدا ان تتحالف هذه الكيانات ، على قاعدة المثل " ان الطيور على اشكالها تقع ". لا غرابة إذن أن تنتصر كندا الى "قضية اسرائيل" أكثر من انتصار "اسرائيل" لنفسها!
يبدأ الحديث عن مُقاطعة شركة اسرائيلية، أو شركة فرنسية تدعم الاحتلال وخرق القانون الدولي، ثم يدفع الصهاينة كل مجرى الحديث الى صراع محموم حول "نزع الشرعية" ويسردوا من الأساطير والخراريف القديمة والجديدة لكن كلها لم تعد "تخرط " في رأس طالب ايرلندي عمره 17 سنة ، في عالم يستطيع أن يبحث فيه هذا الطالب ويعرف بسهولة ما يقوله " الطرف الاخر " ويقرأ الرواية الفلسطينية.
يريد الصهاينة أن يصلوا الى نتيجة مفادها: حق العودة للاجئين الفلسطينيين يعني تدمير "اسرائيل"! لكن - وعلى سبيل المثال - فإن الطالب الايرلندي يقرأ ان حق العودة هو حق طبيعي، وقانوني، فردي وجماعي، وعليه سوف يسأل أكثر، هكذا يجد الصهاينة انفسهم في موقع الدفاع، ومن يبرر افعاله وجرائمه، ويقفوا عاجزين غير قادرين على تمثيل دور الضحية، التي صنعوها، واعتادوا عليها، وأمام حملات المقاطعة الشعبية التي تستند الى قوة الحق والى الحقائق الدامغة – الحقائق التي يصنعها العدو بنفسه ويديه - يتغير الموقع. لم يعد بإمكانهم أن يجلسوا في كرسي القاضي والجلاد والضحية، كرسي من يسرق ويقتل ويحتل و يتهم ويحاكم ويصدر الحكم ثم يذرف دموع التماسيح في وقت واحد!
ويسأل العدو أيضاً:
لماذا لا يرضى العالم علينا ويريد أن يقاطعنا؟ يقول إن العرب في "اسرائيل" يتمتعوا بحقوق متساوية كمواطنين، ويقول وافقنا أن يتقرر مصير المناطق في يهودا والسامرة على طاولة المفاوضات، انسحبنا من غزة، فماذا يريد العالم منا، أكثر مما قدمناه؟ ثم يعودوا ويخلصوا الى نتيجة "منطقية" واحدة: المقاطعة الدولية تهدف الى نزع الشرعية عن "اسرائيل". ولا يوجد أي سبب منطقي آخر!
هذا الموقف الصهيوني يمكن دحضه بسهولة، أمام حقائق الواقع كما أسلفنا، ولكنه موقف يقصر الطريق علينا، حتى تشق الاسئلة الفلسطينية المشروعة طريقها، وهي اسئلة الضحية، وهي الاسئلة ألا هم:
لماذا ترفض "اسرائيل" الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم؟ لماذا يقف العالم عاجزا امام تطبيق قرارات الشرعية الدولية؟ لماذا تكون "اسرائيل" فوق مبادئ القانون الدولي ولا تُحاسب ولا تُسائل؟ ثم تعالوا نبحث في طبيعية هذه الدولة وشرعيتها. ونطرح سؤالا على العالم: ما هو مستقبل "اسرائيل"؟ وهل نجحت في مشروعها العنصري الاستيطاني بعد 65 سنة؟ هل استطاعت شطب الشعب الفلسطيني والغاء وجوده؟ هل جلبت السلام لليهود وللعرب وللمنطقة؟ أن الحقائق الأكيدة تقول إن وجودها في المنطقة كان، ولا يزال، بفعل قوى استعمارية كبرى، ارادت الهيمنة على المنطقة وخيراتها، أن "اسرائيل" صناعة استعمارية، وهي ليست مثل مصر و ايران وسوريا واليمن، بل ظاهرة إستعمارية غربية، لا تنتمي للمنطقة. دولة لنظام قائم على الاحتلال والقهر ولاستيطان والتمييز العنصري. "اسرائيل" باختصار شديد: دولة فاشلة .
لم يعد بوسع العدو أن يظهر في صورة الضحية المسكينة، هذا زمن ولى وانتهى، سقطت كل ذرائعه امام صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة من النقب والمستمرة. حقائق القوة الاقتصادية والعسكرية التي يملكها العدو لا تمنحه شرعية، بقدر ما تؤكد عدم شرعيته وبقدر ما تؤكد ايضا انه لا يمكن ان يكون الضحية. ما هذه الضحية التي تملك 300 رأس نووي؟ كما ان الوحشية والعنصرية الاسرائيلية التي تمارس في وضح النهار وهذه الجرائم التي ارتكبتها الة الحرب الاسرائيلية في فلسطين وخاصة في قطاع غزة وفي لبنان انما تفضح صورة الاحتلال امام قطاعات شعبية واسعة في العالم. إن استخدام الأسلحة المحرمة دوليا واستمرار بناء المستوطنات ومصادرة الارض وسرقة المياه وخنق القرى والمدن الفلسطينية بالجدار والحواجز العسكرية وهدم البيوت واعتقال الاطفال وانتهاك حرمة المقدسات وسياسة الأسرلة والتمييز العنصري بحق شعبنا في فلسطين المحتلة عام 48، كل هذه السياسات وكل هذه القوانين هي صور ونماذج يومية يراها العالم بوضوح أكثر حتى لو طنشتها الدول والحكومات بفعل الانحياز الاعمي لمصالحها، وبسبب الخلل القائم في موازين القوى، والذي يميل بالكامل تقريبا لصالح معسكر العدو.
كما لم يعد كيان الاحتلال قادراً على إجترار تهمة اللاسامية ضد كل من ينتقد "اسرائيل" وتسقط هذه الحجة الواهية أمام المشاركة الواسعة من اليهود في الحملات الشعبية الدولية المناهضة للاحتلال وللتمييز العنصري. وان اهم الاسماء التي تقود حركة المقاطعة الدولية هم اصلا من اليهود في كندا والولايات المتحدة وانجلترا وايرلندا وجنوب افريقيا وغيرها ، ومن وجهة نظر هؤلاء، فإن الهدف من مشاركتهم في حملات المقاطعة ضد الاحتلال ليس فقط من اجل تحقيق العدالة في فلسطين وحسب، بل ولان هذه الجرائم الصهيونية تمارس باسم يهود العالم ايضا. ان دولة اسرائيل شئ، واليهود شئ آخر تماما، هذه دولة احتلال ولا تمثل اليهود، ويجب أن لا تتحدث باسمهم بل يجب مقاطعتها. ويرفض هؤلاء استغلال الحركة الصهيونية للمذابح التي تعرض لها اليهود في زمن المانيا النازية لتبرر جرائم اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وتبرر حروبها المتواصلة ضد شعوب المنطقة..
أن حركة المقاطعة الدولية ليست بديلاً عن مشروع التحرر الوطني الفلسطيني ولا بديلا عن المشروع القومي العربي الذي يجب ان ينهض ويسند النضال الوطني الفلسطيني، ولكنها بالتاكيد أحد الأسلحة الاستراتيجية الهامة التي سيكون لها دورًا حاسمًا في إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني في فلسطين. المقاطعة الشعبية الدولية تتسع دائرتها وتاثيراتها وسوف تتواصل وتستمر. ومع مرور الزمن واستمرار مفاعيل الصراع من الطبيعي أن تكثر اسئلة العدو عن شرعيته، هذه ضرورة، ومعها يكبر القلق الاسرائيلي إلى حالة تشبه الهستيريا والخوف من العزلة. وصولاً إلى حالة الإنكار، كلها سمات تسبق زوال ورحيل من لا شرعية له ولا قضية ولا مستقبل.
***
ملاحظة: نُشر هذا المقال عام 2014، ويعيد الكاتب نشره اليوم في ظل تصاعد موجات التطبيع على رأسها مؤتمر البحرين وما يرافقها من تطبيع عربي مع كيان الاحتلال.