شبكة قدس الإخبارية

ما تركه لنا باسل الأعرج

maxresdefault
شام حسين

قبل عامين وتزداد قليلاً في صبيحة السادس من آذار عام 2017، استيقظت وكُلّي أملٌ في يومٍ مميز؛ اليومَ يكتمل العشرين من عمري، ميلادي الأثير الذي لطالما كنت بانتظاره حتى أبدأ رحلتي مع العمر الموعود والمنتظر، النقطة التي تنطلق عندها المغامرات والمرحلة التي لطالما وصفها الكتّاب والشعراء وحتى النّاس بأنها أجمل مراحل الحياة، وبالفعل كان مميزاً بطريقة غير اعتيادية.

بحكم العادة عند بداية كل استيقاظ وبالأخص هكذا تاريخ، ذهبت لتفقّد حسابي على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" لأشرع بقراءة التهنئات والرسائل التي كتبها الناس، هذا الجزء المفضّل في كل مرة. لكن سرعان ما انقبض قلبي عندما رأيت المنشور الأول على الصفحة الرئيسية "لا يا الله إلّا باسل". هنا أدركت أن مصيبة كبيرة قد حلّت على الأصدقاء قبل أن يصل الدور إليّ، فرق الساعات بين علمي بالحدث ومعرفتهم بالخبر يعادل فرق سنوات عديدة، مصابٌ جلل يبدو قد أُسقط علينا جميعاً.

لكن ما هوّنَ الحديث نبأٌ آخر لحق بهذه المنشورات: "استشهاد باسل الأعرج بعد اشتباك دام ساعات مع قوات الاحتلال". حسناً لقد نال مُناه، شرفٌ عظيم، يكفي أنه شهيد مشتبك، مقبلٌ غير مدبر.

البذرة والمنبع:

في السابع والعشرين تشرين الثاني عام 1984 ولد باسل محمود الأعرج، ذاك الفلسطيني الهوية والهوى، تنقل بين ضفتيّ النهر صوب الشقيقتين الأردن وفلسطين، حيث مكث أشهره الأولى في الجهة الشرقية بسبب عمل والده آنذاك، ثم عاد إلى أرض الوطن رضيعاً لم يبلغ شهره الثامن، تحديداً إلى قرية الولجة جنوبي غرب من القدس العاصمة المُحتلّة، ومن هنا بدأ ارتباطه بالأرض التي انطلق منها مقاوماً، وعاد إلى باطنها شهيداً مشتبكاً مقاوماً للإحتلال وأعوانه.

"باسل كان شقي"، الكلمات الأولى لوالدته في حديثها عنه، تلك المرأة التي شهدَ لها كلُّ مبصرٍ ليوم زفاف "الباسل" بالقوة الصادمة ورباطة الجأش التي لا تعرف حدوداً.

الشقاء في بلادنا له مفهوم مختلف، مفهوم إيجابي غير معتاد في الدول الأخرى، فمن كان يتمتع بالحداقة والذكاء وكُثر الحركة والسؤال فهو شقي، أي اجتمعت فيه علامات الوعي والذكاء منذ طفولته.

والشقاء في حديثنا الجاري يرتبط بشكل وثيق بالمقاومة بمختلف مسمياتها وطرقها وحجم تطبيقها، فباسل منذ نعومة أظافره اعتاد التمرد على ما هو حوله وكل ما يحيط به، وبطبيعة الحال الفلسطينية بشكلٍ عام وقرية الولجة -الغارقة بممارسات الاحتلال والمستوطنين- خاصةً؛ التمرد مقاومة، وكطفلٍ يرفض الانقياد خلف المألوف اشترك الأمران سوياً لتجسيد شخصية صديقنا الذي نروي قصته على مدى الزمن التالي.

تعود سهام الأعرج والدة الشهيد للحديث مجدداً، فتذكر يوماً عاد ابنها الأكبر سعيد من المدرسة دون باسل الذي طال غيابه قبل أن يرجع متأخراً رفقة خاله تحسباً لأية ردّة فعل من أهله اتجاهه نتيجةً لفعله غير المسبوق، ليعلموا أنه توجه بعد المدرسة إلى جنازة شهيد متقدماً إياها

تُكمل والدة باسل: "كما عهدناه دائماً في شبابه في مقدمة كل حدثٍ وطني"، لو بحثنا عن أصل كلّ شهيد ومواقفه لوجدناه قائداً خفيّاً توارت الأنظار والأضواء عنه وقتها وتسلطت عليه بعد رحيله.

في ذات السياق، واستكمالاً للحديث عن تصرفات باسل الطفل التي كانت توحي بنشأة ثائرٍ جديد في طريق المقاومة الفلسطينية المستمرّة، اعتاد الأعرج على مطالعة الكتب وقراءة الحكايات ومتابعة المسلسلات التاريخية، حتّى أنه كان يتأثر بالمشاهد التمثيلية ويطبّقها أثناء لعبه.

إحدى قصص باسل التي تسردها "أم السعيد" أنه في سنِّ الحادية عشر اجتمع أبناء أعمامه وإخوته أمام بيتهم، تمدد على لوحٍ من الخشب ووضع على رأسه قمعاً كأنه متواجد في الساحة، ثمّ طلب أن يرفعوه على أكتافهم مردداً: "ستبقى يا قطز يا قاهر التتار"، محاكياً ببراءة طفولته آنذاك قتال جيش قطز والظاهر بيبرس للتتار على أرض فلسطين وطردهم منها وإيقاف تقدمهم، قومٌ يُشبِههم كثيرون بالمشروع الصهيوني الحالي.

في كل صباح كان المنظر الأول الذي يستقبل به باسل يومه وهو متجه إلى المدرسة السلك الشائك الفاصل أراضي الولجة عن العاصمة القدس، الأمر الذي أدّى إلى تراكم الغصّات وإلحاح صوت المقاومة داخله.

بيتٌ اعتاد على أن يكون الوطن همه الأول، وربّى أطفاله على هذه المعتقدات الثابتة التي قلّ التمسك بها في أيامنا الراهنة، يُرى أنه من الطبيعي جداً أن يخرج منهم بطلاً مثقفاً قادراً على إيصال رسالتهم المشتركة، ليس فقط إلى فلسطين إنما للعالم أجمع.

دراسته وعمله

تفوّق باسل في دراسته خلال المراحل المدرسية المختلفة، ودخل فرع العلمي وتخرّج منه بدرجاتٍ عالية. بعدما أكمل مرحلته الثانوية انتقل إلى القاهرة لدراسة الصيدلة في جامعة " 6 اكتوبر"، والده هو صاحب فكرة دراسته لذلك المجال؛ كون باسل كان يعاني من مشكلة كبيرة في النظر منذ طفولته لدرجة تمنعه من إبصار أي شيء دون نظّارته الطبّية، فكان هذا العمل هو الأنسب له لعدم صعوبة تأديته وتمكنه من قراءة الأدوية والوصفات الطبيّة.

أكمل سنوات دراسته وعاد إلى الوطن بحقيبة كانت تحتوي فقط على الكتب، كتبٌ كثيرة، غير تلك التي تركها في القاهرة آسفاً غير قادرٍ على حزمها معه. كان يقضي كلّ وقته هناك داخل سكنه بالقراءة والمطالعة وبالأخص المراجع التاريخية، مما جعله حاملاً في جعبته الكثير من الحكايات والقصص والأحداث والمعارك التي دارت على أراضينا الفلسطينية.

بعدَ عامين من عودته، انتقل باسل للسكن في مخيم شعفاط نتيجةَ حصوله على عملٍ في إحدى الصيدليات هناك، مكث قرابة العامين في شعفاط ثم انتقل الى رام الله للعمل في المتحف الفلسطيني كباحثٍ لتاريخ المقاومة الفلسطينية.

كان لباسل أنشطةً وطنية وتوعوية عديدة، سيتم سرد بعضها، لأنها لا تُعدّ وصعبة الإحصاء، أهمّها كان المظاهرات والاحتجاجات الوطنية المختلفة؛ مظاهرة ضد مخطط برافر، الاعتصام والتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، وكل ما يمتّ للوطن ومقوّماته بصلة.

قيادته الاجتماعية

مجرد تعرفك عليه ومن اليوم الأول كفيلٌ بأن يجعل منه صديقاً. كان صديقاً للجميع، والجميع هنا تشمل المفاهيم كلّها؛ الجميع من الفئة الشابّة، الجميعُ من الثقافة والجميع من أهل الوطن، صديقاً للشهداء وحكاياتهم، صديقاً للأسرى ووفيّاً لهم، صديقاً للإناث وأنشطتهنَّ المقاومة للاحتلال، صديقاً للّغة، حتّى أنه كان صديقاً مقرّباً للبيئة، فإن كنتَ قد سرت يوماً برفقته في إحدى التجوالات ستدرك حتماً هذا الكلام، وإن كنت قد قرأت بعض مقالاته ودراساته التي نشرها، ستتعجب من اتساع حجم وطن بأكمله داخل إنسانٍ نحيل يحوي كل مقومات المجتمع والوطن، ويدافع عن كل عناصره بشراسة وبمبادئ مُطلَقة.

وكما أوردنا أعلاه فالشهيد باسل الأعرج كان صديقاً "للجميع"، وبعض الجميع ينضم في السطور التالية في محاولة شرح مكنونات ذلك الإنسان؛ فقد كانت الخصوصية التامة أبرز صفاته التي تميزه. اعتبرها البعض غموضاً، لكن الغموض لا يلتقي مع الوضوح! ويتساءل سائلٌ: كيف لكلمة أن تلتقي نقيضها؟

اعتاد كتمان أسراره وأسرار غيره، بئرٌ عميق، اجتماعيُّ وكثير الكلام والعلاقات، لكنّه حذرٌ جدّاً باختيار الألفاظ والكلمات والمصطلحات ووضعها في المواقف المناسبة. يعتقد المقربون منه أنه كان يعلم كونه "محور اجتماعي" يمكّن مواقفه وتصرفاته وأثره في نفوس كلّ من حوله عن غير قصد ولا نيّة وبعفوية تعادل ضحكته البريئة رغم تقدم عمره، شخصيته القيادية كانت سبباً في إيصال رسالته الأولى، رسالة الوطن، بشكل سريع إلى أجيال تختلف عنه.

"غموضه الواضح" يذكّر من يتبحّر في عالمه بأشياء مماثلة من تفاصيلنا الفلسطينية، الأمور البسيطة المعقّدة في آنٍ واحد، "السهل الممتنع" كما تتناقل وسائل الإعلام التي احتفت به شهيداً وتناسته معتقلاً وناشطاً اجتماعياً، ولعل أبرز الحالات المرادفة لباسل قد تكون كتابة محمود درويش حينما قال: "إنَّ الهويّة بنت الولادة، لكنّها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماضٍ، أنا المتعدد في داخلي خارجي المتجدد ،لكنني أنتمي لسؤال الضحيّة. لو لم أكن من هناك لدربتُ قلبي على أن يربي هناك غزال الكناية. فاحمل بلادك أنى ذهبت".

"ما تركه لهنَّ"

للمرأة مفهومها الخاص بحكم ثقافتنا والعادات السائدة، فبين مع وضد، وبين من يدعم ومن ينتقد، تتكون ثقافة جديدة مغايرة للمفهوم الأصلي للمرأة، وهو أنثى الإنسان البالغة، وتندرج تحت هذه الثقافة المغايرة الكثير من التصرّفات التي تشكّل تيارات ومفاهيم جديدة، حتّى أنها تكاد أن تخفي المفهوم الأُم، بين جمعيات مناهضة للمرأة وبين معارضٍ لها، بين مؤيد ومنتقد، بين متحيّز للمرأة وذامٍ لها، أما بطل قصتنا فقد كان يتناول هذه المواضيع بنقاشاته بشكل مبتكر وغريب وحياديَّ، كعادته لم يتمنّع يوماً في أي نقاشٍ يجريه.

في أيار عام 2012، نشر باسل مقالاً بعنوان"لا تكن مع الاحتلال ضدّهنَّ"، كانت نون النسوة في مواجهة هذا الاحتلال تختصر نظرته وما يحاول ايصاله عن المرأة وما لديه لها بربطها بالمقاومة؟ تحدّث نصّه المذكور عن استيائه بشكل كبير من التعليقات والانتقادات التي توجّه للمرأة المناضلة "في أيامنا هذه"، وكمية الشتائم التي تنهال على كل واحدة تتواجد عند نقاط التماس مع العدو. فسّر في مقاله الأسباب التي تكمن وراء هذه النتائج، وكل ما أوصل شعبنا إلى حالة الرضوخ ومهاجمة الآخر.

انتشرت لباسل تغريدة من حسابه الخاص في موقع "تويتر" يقول فيه "علّموا بناتكم على الشراسة كي يحظين بالاحترام لا الشفقة"، اختصر بهذه المقولة الكثير من المبادئ والقيم الخاطئة التي وجب تغييرها عن المرأة وللمرأة في المجتمع.

ليس فقط المرأة، كل مفهوم في حياة باسل له تقدير وتقديس مختلف، وبالأخص "المقاومة" لها تفسير آخر يحتاج الكثير من الكلام، استكمالاً للحديث، لم يلقِ باسل اللوم على من يشتم وينتقص المرأة، تمكّن بأسلوبه المميز من إسناد ردود الأفعال هذه إلى سياسة التجهيل المعتمدة التي وقعت على شعبنا، والتي كان للاحتلال الغاصب الدور الأكبر في ترسيخها، مروراً بالسّلطة والإعلام المتواطئ وأشباه المثقفين والكُتّاب ومؤسسات المجتمع المدنيّ التابعة لمنظومة التمويل الخارجي، وبناء على كلّ ذلك لم يكن المواطن "المهاجم" على إدراك أو وعيٍ كامل لحقيقة الأمر، فلا يحقُّ لأيٍّ منا مهاجمته أو التنظير عليه أو حتى أن نطلب منه موقفاً كاملاً في هذا السياق، يطلب في نهاية مقاله من الفرد أن يراعي ثقافة المجتمع ولا يعاديها.

مراعاة الواقع وإسقاط المعاداة كانت من المناهج التي انتهجها باسل وطبّقها في حياته، بالرغم من مواقفه المناهضة للمؤسسات الأمنية ومؤسسات المجتمع الدولي وكل من يمتّ لهنّ بصلة، إلّا أنه لم يقبل يوم أن يكون هناك أي نقطة صدام بينه وبينهم، حتّى أنه كان ينتقد من يشتمهم أو يركّز جلّ غضبه عليهم في القول أو الفعل، "قد أخطأت البوصلة".

صواب البوصلة

ما أخطأ اتجاهه يوماً، لم يحِد عن طريقه ونهجه، ولا لحدَ بمعتقداته وإيمانه، مضى في طريقه باحثاً عن أجوبته التي أخذت من سنيّ عمره الكثير، ونال بعدها الإجابة، الإجابة بمعانيها الشاملة.

قبل البدء ببوصلة الباسل، البوصلة تعني أداة تحديد الإتجاه، يعتمد على الحقل المغناطيسي للأرض، أي أساسه الأرض ومنبع الأرض، تماماً كبوصلة باسل، لم تنحرف يوماً عن أصلها الثابت.

تتشابهان أيضاً بكثرة الأسهم، أسهم الاتجاهات، الإتجاهات التي لا تخيب أبداً، دائماً صحيحة، مهما حاولت أن تميل يبقى المؤشر في اتجاهه الصحيح، لا خيارات إلّا الصحيح.

شمالٌ وجنوب، غرب وشرق، الشمال الغربي، وغيره من الاتجاهات في البوصلة الأولى، يحاذيها أسماء مختلفة في البوصلة الثانية، المقاومة، التاريخ، اللغة، السياسة وغيرها الكثير، وبالطبّع المؤشر الرئيس وهو حق الأرض.

المقاومة كان لها النصيب الأبرز، يذكر رفاق باسل أنه كان متبّعاً لكل أشكال المقاومة، اللفظية والفعلية، مقاومة الحجارة، والشوارع، مقاومة الكلمة، ومقاومة السكوت إن لزم أيضاً.

عام 2012، انتشرت صورة لمقاوم فلسطيني، أعزل إلّا من حجره، تحديداً أمام سجن عوفر قضاء رام الله، تعود هذه الصورة الى باسل، في مسيرة إسناداً للأسرى المضربين عن الطعام، في ذلك العام كثرت أنشطة باسل الوطنية، إسناده للأسرى في المسيرات والمظاهرات، والخيم والاعتصامات التي كانت تُقام في رام الله وغيرها من المدن، وكان هو المسؤول عن الحراك الشبابي الموجّه لدعم الأسرى حينها، يذكر أحد الأصدقاء أنه التقى لباسل للمرة الأولى عام 2012 في إحدى الخيم المتضامنة مع الأسرى المضربين، يقود الشباب ويجمّعهم ويهتف بهم بعباراتٍ حماسيّة وطنية.

حدث يومها احتداد بين شباب الفصائل الفلسطينية المختلفة توجهاً وفكراً، أما باسل الذي كان بين الجموع فوقف بينهم مشاهداً للحظة ومستغرباً في أخريات، ما كان منه بعدها إلا أن يحاول جاهداً وبقوته الفردية المحدودة أن يوقف ما كانوا فيه.

لم ينتسب يوماً إلى أي فصيل أو جهة معينة، رافضاً لفكرة اختزال الوطن والطريق إليه في حزبٍ أو توجهٍ محدد محكومٌ بقرارات رؤسائه والمناكفات مع التجمعات السياسة الأخرى، في الوقت ذاته كان منتمياً للكل الفلسطيني، لم تكن فكرته رفض الفصائل بقدر ما كانت رفض التعصّب، كان يرى في كل حزب بصيصاً من الأمل في خطى التحرير.

"فاحمل بلادك أنّى ذهبت":

"على تقديري"، جملة كانت في بداية شريط مصور اشتهر كثيراً لباسل الأعرج وهو يشرح لجموع المشاركين إياه في جولة إلى محافظة جنين كيف حرر الجيش العراقي المدينة بعد سقوطها لساعات بيد العصابات الصهيونية في أيار من عام النكبة، وكيف وقفت مدفعيات العراقيين على مشارف جنين وشرع بقصفها وتحريرها في وقتٍ أقل من الذي لزمهم لسلبها.

هكذا كان نهجه في" تجوال سفر"، بدأت هذه المبادرة الشبابية عام 2012، وكان باسل أحد منسقيها، واستلم مهمّته التوعوية، النابعة من الذات، حتى ينقل تاريخ البلاد وأحداثها إلى المشاركين في هذه الجولات، "تجوّل في أرضك تمتلكها" شعار هذه الجولات، ولأن إرث الأرض لا يحقّ إلّا لمن يعرفها جيّداً، ويحفظ معالمها عن ظهر قلب، كان لا بدّ من إدراك الشباب لهذه الثقافة، ثقافة التوعية بحقّ الأرض والوطن.

يشرح في إحدى جولاته عن فكرة الجدوى المستمرّة، على مشارف مدينة جنين، عام 1948، هجمت العصابات الصهيونية على منطقة الخضيرة واليامون، والمثلت بشكل كامل، في هذا الوقت كانت فرقة من الجيش العراقي متوجهة من نابلس الى طولكرم، وعند مفرق "دير شرف" تحديداً غيرت وجهتها لتذهب الى جنين، التقت بأهالي قرية برقين وأخبروهم أن البلاد تعرضت لهجمات صهيونية وهرب الأهالي، وقفت القوات العراقية وبدأت بالضرب التقديري، فتمكنت من السيطرة على مناطق اليامون والخضيرة وبرقين وأخرجت العصابات الصهيونية منها، وكانت النتيجة أن المنطقة خلَت من استيطان الصهاينة، واستفاد أهالي البلاد وأحفادهم من بعدهم، بأن هذه المناطق خالية من الاستيطان حتى يومنا هذا، بعكس الكثير من المناطق، مثلاً بلد باسل "الولجة" التي تحاوطها المستوطنات من كل حدب وصوب، وهذه هي فكرة الجدوى المستمرة للمقاومة.

من جبال عارورة، الى أرض الولجة "شهيداً"

"تحية العروبة والوطن والتحرير، أمّا بعد..

إن كنتَ تقرأ هذا فهذا يعني أنّي قد مِتّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مُقبلٍ غير مدبر بإخلاصٍ بلا ذرّة رياء. لكم من الصّعب أن تكتب وصيّتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأملُ كلّ وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيّرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مُختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة

وأنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدتُ أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغُ وافصحُ من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلّا أنّ ما أقعدني عن هذا هو أنّ هذا هو سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم، أمّا نجنُ أهل القبور فلا نبحثُ إلّا عن رحمة الله."

إرث باسل لنا، ذهب وتركنا حائرين بها، بعد أن مضى في رحلته بعيداً عن كل شيء، قريباً من الهدف، يحول بينهما فقط أيادٍ متخاذلة.

الإختفاء الأول:

"تلقّينا اتصالاً هاتفياً من الشرطة يفيد باختفاء باسل وعدد من رفاقه، وبعدها تم نشر خبر على الصفحات الإخبارية بأننا قمنا بالاتصال على الشرطة وبلغناهم اختفاء ابننا، وهذا لم يحدث أبدا، فقد اعتدنا على اختفاء باسل، كان كثير الغياب، يغلق حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وهاتفه، ولا يزورنا من حين إلى حين، ينشغل بحياته وعمله والدراسات التي كان يجريها، لهذا لم يكن اختفائه هذه المرة أمراً غريباً، إلّا أننا شعرنا بالخوف بعد هذا الاتصال"، هكذا تكلّم والد باسل عند سؤالنا عن لحظة الاختفاء.

الأول من نيسان عام 2016، اختفت آثار باسل واثنين من رفاقه، محمد حرب، وهيثم سيّاج، جُن جنون الأجهزة الأمنية،اختفاء ناشط وطني شبابي سياسي يشكّل تهديداً على الأمن العام والأمن القائم مع "اسرائيل"، كثّفت الأجهزة عملها وبحثها المتواصل، و بسبب التفاعل الكبير مع قضية باسل ورفاقه، ونشر اختفائهم "بصورة غامضة"، وما بين أخبار صحيحة وأخبارٍ خالية من الصحّة، تمّ انتهاك حرمة هؤلاء الشباب في خصوصيتهم وإقحامهم بورطة كبيرة.

بعد أسبوعين من اختفائهم، تغنّت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية بإلقاء القبض على "خلية إرهابية" يقصدون باسل ورفيقاه، في إحدى وديان قرية عارورة قرب رام الله، واعتقلوا بعدها ثلاثة آخرين من أصدقائهم، تم سحبهم والتحقيق معهم، ومن ثمّ زجّهم في سجن أريحا مع المجرمين وأصحاب القضايا الجنائية وغيرها.

في حس باسل الفكاهيّ المعتاد، حتّى وهو في السجن، تحدّثنا والدته عن لحظة دخوله إلى غرفة تحوي كل مجرمين البلاد، سأل أحدهم " مين انتو؟" "شو قضيتكم؟"، فأجابه باسل " احنا بنتاجر في أعضاء البشر" وضحك، لم يصدّق أي من المساجين هذا الكلام، فمنظر باسل لا يوحي بشيء هكذا، ولا يوحي أساساً أنه صاحب جريمة أو قضية جنائية!

في سجوننا فقط، يتساوى الثائر والمناضل بالمجرم والإرهابي، بسبب التنسيق الأمني الحاصل مع "دولة اسرائيل" المزعومة.

تم نقلهم الى سجن "بيتونيا" في شهر "أغسطس" عام 2016، وحينها طلب باسل من أهله أن لا يزوره منهم أحداً، "ما كان بده ننذلّ، وهو عارف شو سجن بيتونيا واللي فيه" هكذا عللّ والدا باسل طلبه.

في الثامن والعشرين من آب عام 2016 أعلن باسل ورفاقه الخمسة اضرابهم عن الطعام رفضاً لاعتقالهم والتحقيق معهم دون أسباب مقنعة، دون تُهم تُذكر أو محاكمة، تفاعلت وسائل الإعلام مع القضيّة والشارع الفلسطيني، خرجت مظاهرات أمام المقاطعة في رام الله دعماً وإسناداً للشباب المضربين عن الطعام من أجل كرامتهم، انطلقت هذه المظاهرات تحت مسمى " اضراب الستّة المختطفين"، المختطف ليس كالمعتقل، اعتقال أحدهم والتحقيق معه دون نسب تُهم، ومنع المحامين من الوصول عليه، وتأخر عرضه على المحكمة، يعتبر اختطاف ، لأن الاعتقال له أحكامه وقوانينه.

في الأيام الأولى من شهر أيلول، خرجت مسيرة دعماً للمضربين عن الطعام، تواجد فيها أهالي المعتقلين الستة، والعديد من الشخصيات الوطنية، ورفاق باسل ورفاق رفاقه، تجمّعنا يومها أمام مقرّ المقاطعة في مدينة رام الله، هتفنا لباسل، هتفنا لرفاقه، وهتفنا للكرامة، بدأ الجمع يزداد والأصوات تتعالى، دقائق معدودة وكان الأمن قد أحاط المكان كلّه، بدروع قوية، وعُصيّ عريضة.

لإخفاء صوت النّاس قامت قوات الأمن بإطلاق أصوات الزوامير، وإحداث ضجة في المكان، حتى لا يصل صوتهم الى المقاطعة ومن بداخلها، وبعدها حصل صدام بين الشبّان وقوات "مكافحة الشغب" بسبب الهتافات المسيئة للرئيس وسلطة أوسلو آنذاك.

بعد أيامٍ قليلة وتحديداً في الثامن من أيلول، تم الإفراج عن باسل ورفاقه الخمسة من سجن بيتونيا، وهنا بدأ الإختفاء الثاني لباسل، الاختفاء الذي عاد منه محمّلاً على أكتاف الأحبة، ملقياً غصّة غيابه وفقدانه على أكتافهم التي تحمله.

تروي ام السعيد لنا عن لحظة الإفراج عن باسل وما حدث في ذلك اليوم، " افرجو عنه وسلمنا عليه وصار بدنا نروح بالسيارة، حكالي روحو انتو وانا بروح لحالي، أولها ما رضيت وحكيتله لا بتطلع معنا، أصرّ ع رأيه ومشان يطمنني طلب منّي أروح أعمله طنجرة مقلوبة بزهرة". المرّة الأخيرة التي رأى فيها باسل أهله وأحبابه، حاول أن يطمئن أمه وأن يجعلها تذهب من المكان بأسرع وقت ممكن، في اللحظات الأولى ظنت أنه يريد أن يحميهم، كي لا يتتبعهم أحدٌ في الطريق، وصلت الى بيتها وانتظرت باسل، لكنّه لم يعد.

مستوى الإدراك والحسّ الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به باسل، أكّد له أنه فور خروجه من سجون السلطة سيتم اعتقاله من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، فخطط للاختفاء من جديد، وبالفعل بعد أيامٍ قليلة، اقتحمت قوات الاحتلال بيوت كلّ من هيثم سياج، محمد حرب، اعتقلتهم وبدأت البحث عن باسل، حسب ما ذكر والده أن جنود الاحتلال كانت تتردد بين يوم والآخر الى بيتهم للبحث عن باسل، وأن تردد الجنود عليهم كان يريح قلوبهم، فكلما داهمت قوات الاحتلال البيت، تأكد أهل باسل أنه بخير ولم يتم اعتقاله بعد، لم يكن أهله وقتها يعلمون أي شي عن مكان تواجده أو حتى أي وسيلة من الممكن أن تكون حلقة وصل بينهم وبينه.

تمكّن من التخفي مدة ستة أشهر، واستطاع أن يتحرّك بأريحية مطلقة، حتّى أنه تمكن من اقتناء السلاح داخل البيت الذي استأجره، شكلُ باسل سريع التغيير، إن دققت في صوره وقارنت كل واحدة بالآخرى ستفهم قولي هذا، إنّه لا يشبه نفسه في كل مرة ترآه فيها، تختلف ملامحه بين صورة وأخرى.

يروي صاحب البيت المستأجر، أن باسل ذهب إليه على أساس أنه سائح، يريد استئجار البيت لبضعة أشهر، وأنه يعمل على دراسات وأبحاث في فلسطين، أتقن الدورجيّداً وكان متقناً بتخفّيه.

البيت يكمن في البيرة، أي منطقة مأهولة بعدد لا يستقل به من السكّان، يالجرأته!

استمرّ على حاله هذا مدّة ستة أشهر، أربك أجهزة الاحتلال باختفائه، مثقّف كهذا، ثائرٌ ومخلص للأرض بثقافته يشكّل تهديداً كبيراً على كيان الاحتلال، ولكنّ أياديه الطائلة تمكّنه من الأبطال في كل مرة.

الثانية عشر بعد منتصف الليل، دخلت قوات الاحتلال المدججة بالأسلحة إلى البيرة، حاوطت البيت الذي يتحصّن فيه باسل، تسللت الى داخله وبدأ الاشتباك المسلّح، بين الباسل وجنود الاحتلال، دام الاشتباك قرابة الساعة وأكثر قليلاً، حتى نفذت ذخيرته، اثنان وعشرون رصاصة في الصدر، وقذيفة ضُربت على البيت حتّى يتأكدوا أنه بات جثّة، اثنان وعشرون رصاصة تلقاها مقبلاً غير مدبر.

" الله اكبر الله اكبر، اشهد أن لا اله الا الله.." خطاب المناداة للصلاة، لكنّه اليوم كان مختلفاً، ربما كان خطاب لأهل الشهيد، أو بشرى لاستشهاده.

في وصف أبو السعيد تلقّي خبر استشهاد باسل، " صحيت الفجر عشان أصلّي، صلّيت ونبهت ام السعيد، بعد الصلاة فتحت الفيس بوك أشوف شو في أخبار، طلع بوجهي خبر استشهاد شاب مجهول الهوية في رام الله بعد اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال."

أحسّ أن الخبر هذا يخصّه وعائلته، وأن المجهول هو باسل، يفكّر كيف من الممكن أن يخبر زوجته، وكيف من الممكن أن يخفف عنها، كيف يتقبّل الخبر!

" ام السعيد، في خبر بقول انو في شب استشهد مجهول الهوية "أكدت له هي الخبر،" هو ضل مجهول غير باسل؟ في حدا مطلوب غير باسل؟ والله هاد باسل"

حُسم الأمر بعد ساعات قليلة، الخبر على القنوات الفلسطينية "استشهاد الشاب باسل الأعرج بعد اشتباك مع قوات الاحتلال في رام الله".

لم تكن الشمس قد شرقت إلا من ساعاتٍ قليلة، فتحت ام باسل باب بيتها، ورأت جموع النّاس تحيط البيت، و جنود الكيان الصهيوني يطوقون جبال المنطقة كلّها حذراً من أي رد فعل قد يحدث، وبدأ استقبال التهاني.

في فلسطين فقط تجد هذه المشاعر المتناقضة ، تفقد شخص وتستقبل التهاني لا التعازي حينما يكون شهيداً.

بدّل السيد محمود ثيابه، وتهندم بأنظف الثياب وأكثرها أناقة، ووقف لاستقبال المهنئين في هذا العرس الوطني.

"بدأنا بالترحيب باسم عائلة الأعرج، ثم باسم الولجة، ومن ثم باسم فلسطين، حضر ناس من كافة أنحاء الوطن، ومن الأردن، والمنظر الأعظم الذي لا أنساه طيلة حياتي هو وفد أهل الشهداء الذي حضر يومها، لم أرَ أعظم من هذا المشهد." هنا أدرك تماماً أنه أصبح في بيئة تشبهه، أناس يتقاسمون معه همّ الوطن، والفقدان من أجل الوطن، ها هنا المكان الأصح له حالياً .

استدعى ضباط الاحتلال والد الشهيد للتعرف عليه وكانت طريقتهم مستفزّة، "بدك تشوف ابنك؟" "الصورة مؤلمة، بسبب القذيفة متغيّر شكله"، نظر الى الصورة، تمعنها جيداً، "اه هو باسل"، نسي كل ما حوله وتكلّم مع ابنه "الله يرضى عليك، الله يرضى عليك، بعمري ما شوفتك أحلى من هيك".

كانت هذه الكلمة صدمة قوية للضباط المتواجدين، أبٌ فقد ابنه، ينظر إليه بصورة تغطّيها الدماء، واقفاً بهذه الصلابة والقوّة، ويتغنّى بابنه الشهيد، يفتخر به ويغازله، ربما كانت رسالة كافية للاحتلال، بأن الأرض أغلى ما نملك، هذا شيء لا يفهمه أي منهم، لا يعلمون معنى الأرض لأنهم لا يمتلكونها.

وضع الاحتلال شروطاً لتسليم جثمان باسل، لكنّ أهله رفضوا تسلم جثمان ابنهم على شروط المحتلّ، "الروح صعدت إلى خالقها في السماء، وجثمانه حتى وإنْ بَقي في ثلاجاتهم فهو على أرض فلسطين الطاهرة المباركة".

في السابع عشر من آذار لنفس العام، تسلّم أهل باسل جثمانه رافضين شروط الاحتلال، التي كانت تنصّ على عدم وصول الشهيد إلى بيته، وفتح بيت العزاء في القرية، وتسليم الجثمان داخل القرية لا على مداخلها، ومحدودية المتواجدين في المكان، أي كل ما هو آمن عليهم وعلى جنودهم، ولكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً.

قرابة العشرين ألف شخص، وقفوا لاستقبال باسل، استقبلوا صديقهم الذي غاب عنهم ما يقارب العام، استقبلوا من فاضت قلوبهم شوقاً إليه، هتفوا باسم فلسطين، باسم الوحدة، باسم المعتقدات الوطنية لباسل، باسم باسل وأهله، باسم كل من مشي على نهجه، زُفَّ باسل إلى مثواه الأخير في باطن الأرض لا في اللحد، كما أراد، وسط جموع غفيرة، وزغاريد وطنية، بعلم فلسطين تكفّن، وبأرض فلسطين دُفن، وترك لنا سؤالنا حائرين في اجابته، باحثين عمّا يشفي غليلنا من إجابة.

اليوم نتحدّث عن باسل بعد عامين من رحيله، لا أدرِ هل كان الوقت سريعاً أم أن ذكره الحاضر وتخليده والخطو على نهجه سرّع فينا الوقت، وجعل أيامنا خفيفة علينا، ما أثقلنا غيابه؛ ما اعتبرناه يوماً غائباً، انظر إلى شوارع المدن، الى حديث الناس، منشوراتهم على مواقع التواصل، صوره التي تملأ كل مكان، كلّ ذلك اضفه الى محبته الخالدة جعلت منه شهيداً حاضراً في كل زمن وحدث، كما كان يقول دائماً " الشهيد بروح وبيجي".

إليك يا باسل، تحيةُ العروبة والوطن والتحرير، أما بعد، إن كنت تسمع هذا في مكان ما، فهذا يعني أن طيفك وفكرك مستمرٌ وإن غاب الجسد، وأن الشهداء خُلقوا حقّاً ليتاكمل الوطن لقاء مغادرتهم إياه، الوطن ذاته الذي أمضيت حياتك حالماً بيوم أفضلٍ له، يوماً رأيته قريباً، وإنّك لمن الصادقين.

وأمّا من أراد النهج على نهج باسل، إليكم، لا تجعلوا من الشهيد كائناً غريباً خارقاً، لا تضعوه في صندوق مسمّيات غير موجودة، تطبّعوا به وبمنهجه، تأكدوا ورسّخوا بأبنائكم أن الشهيد قد ارتقى من بين هؤلاء النّاس، ليس كائناً سماوياً، إنما صاحب أرض، رفض المذلَة وثار على الظلم والظُّلام، ليكن جلياً أنه خرج من بينهم، لينبثق آخرون من بعده.