أخيرًا، وبعد أربعين يومًا على استقالة حكومة رامي الحمد الله، كلّف الرئيس محمود عباس محمد اشتية بتشكيل الحكومة الثامنة عشرة، لتكون أول حكومة برئاسة قيادي فتحاوي منذ وقوع الانقسام في العام 2007، وبالتالي لا تستطيع حركة فتح بعد تشكيل الحكومة أن تُحَمِّل مسؤولية الفشل لغيرها كما حدث في الحكومات السابقة.
طالت هذه الفترة أكثر مما ينبغي، لأن الرئيس كان مترددًا بخصوص شخصية رئيس الحكومة، فهو كان يفضّل بقاء الحمد الله، أو اختيار شخص باليد، ولكنه حسم أمره في نهاية الأمر، وهذا لغز لم تفك أسراره بعد.
ساهم في إطالة فترة تكليف رئيس الحكومة وجود تنافس وخلاف في اللجنة المركزية لحركة فتح بين من يريد أن تبقى حكومة الحمد الله على الأقل لأشهر قادمة يتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ ومن يريد أن يترأس الحكومة شخصية مقربة من "فتح"، لأن المرحلة القادمة صعبة جدًا، ومن الأفضل ألا تتحمل "فتح" وزرها وحدها، لا سيما في ظل الانقسام وعزوف، حتى فصائل أساسية في منظمة التحرير، عن المشاركة في الحكومة؛ ومن يريد شخصية فتحاوية أخرى، فقد طرح صائب عريقات نفسه في البداية ضمن وجهة نظر أن تكون الحكومة القادمة حكومة منظمة التحرير (حكومة الدولة)، وبرلمانها المجلس المركزي إلى حين إجراء الانتخابات، إضافة إلى عدد من أعضاء اللجنة المركزية الذين تنافسوا على المنصب بصورة جدية أو اعتراضية.
إن غياب المؤسسات، خصوصًا المجلس التشريعي، وعدم إجراء الانتخابات بصورة دورية، وتَحَكُّم الرئيس بمسألة تكليف رئيس الحكومة، ساهم في أن عملية التكليف تمت بمشاركة غير واضحة من حركة فتح، إذ لم نسمع عن اجتماع جرى فيه ترشيح اشتية، بل عن استفتاء من دون اجتماع، ولم يتم المكاشفة بخصوصه، ما يؤكد أن الرئيس هو صاحب القرار، على الرغم من حق "فتح" والرأي العام معرفة كيف اختِير رئيس الحكومة.
أخيرًا، لعب دورًا مهمًا في تأخير اختيار رئيس الحكومة، ويمكن أن يلعب دورًا في رحيلها المبكر أو بقائها، علاقة تشكيلها في هذا التوقيت بمعركة الخلافة المستعرة في الكواليس داخل "فتح" والسلطة، كما يظهر في حشد الأنصار وشراء السلاح واستخدام الوظائف والتعيينات والأجهزة الأمنية لصالح هذا الشخص/المعسكر أو ذاك. ففي حال شغر منصب الرئيس، سيكون لرئيس الحكومة ومن يدعمه أفضلية واضحة تساعد على حسم معركة الخلافة.
لقد أعطت التحديات الداخلية والخارجية مسألة تشكيل الحكومة ورئيسها أهمية مضاعفة، مع أنها ليست الأولوية، فمن المفارقة الدالة أن يوم التكليف شهد إعلان وزير المالية عن صرف 50% من الراتب، مع عدم التزامه بصرف نفس النسبة في الأشهر القادمة، مما يوضّح التحدي الاقتصادي المالي غير المسبوق الذي تواجهه الحكومة.
هذا فضلًا عن الفجوة الكبيرة بين الشعب والحكومة التي تزايدت بصورة ملموسة في عهد حكومة الحمد الله، والتي ظهرت في تراجع الخدمات، وخصوصًا الصحة والتعليم، والعقوبات على غزة، وفي انتشار الفساد والتعيينات الجهوية ومن المحسوبين والأقارب، إضافة إلى تردي أحوال القضاء، وتدهور الحريات والحقوق، وزيادة الفقر والبطالة، وتراجع معدل النمو الاقتصادي، لدرجة بلغ العام الماضي 0.6%، ومتوقع أن يستمر تراجعه، لا سيما في ظل انخفاض حجم المساعدات والتراجع الكبير في النمو في قطاغ غزة.
وتجلّت أزمة الثقة بين الحكومة والمواطن في أكبر صورة بالكيفية التي تعاملت فيها مع قانون الضمان الاجتماعي، التي انتهت بتجميده حتى إشعار آخر، بعد أن تصاعد الحراك الرافض له واقترب من إعلان عصيان مدني إذا ركبت الحكومة رأسها.
ومن أبرز التحديات كذلك وصول المصالحة إلى استعصاء إلى أجل غير مسمى، ما جعل تشكيل حكومة فتحاوية في الضفة الغربية في وقت لم تعد فيه "فتح" صاحبة الأغلبية، ومن دون وفاق وطني ولا حتى حوار أو بذل جهود مقابل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة؛ إعلانًا رسميًا جديدًا عن تدهور الانقسام وسيره نحو الانفصال.
أما التحديان الأكبران، فهما: أولًا، تدهور العلاقات الأميركية الفلسطينية كما يظهر في وقف الاتصالات السياسية، وقطع المساعدات الأميركية البالغة 840 مليون دولار، وسط احتمال تدهور أكثر وعقوبات أميركية أخرى في حال طرحت إدارة دونالد ترامب صفقته المشؤومة، سواء بعد الانتخابات الإسرائيلية مباشرة، أو بعد تشكيل الحكومة القادمة. وثانيًا، اتجاه إسرائيل نحو المزيد من التطرّف والعدوان بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، لأنه لا خلافات جوهرية بين ما يسمى تحالف "اليمين واليمين المتطرف"، وتحالف "الوسط يسار"، الذي هو يمين ينافس اليمين الأصلي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعلاقة مع الفلسطينيين.
في هذا السياق، فإن الرهان على إعادة الأموال المقتطعة بعد الانتخابات الإسرائيلية على الأرجح رهان خاسر، لأن أي حكومة إسرائيلية مهما كانت تركيبتها لا يمكن أن تتجاوز القانون الذي أقرّه الكنيست في تموز 2018. وخشية من انهيار السلطة، يمكن أن تقوم الحكومة القادمة في إسرائيل بإيجاد مخارج أخرى، ولكن في سياق استكمال تحويل السلطة إلى سلطة إدارية أمنية اقتصادية سقفها حكم ذاتي. أما التراجع عن القطع كليًا فصعب إن لم يكن مستحيلًا.
إن هامش الحركة أمام الحكومة الجديدة، رغم المزايا والمؤهلات والخبرات الذي يمتلكها اشتية، محدودة جدًا في الملفات الأساسية، خصوصًا السياسية، التي هي بيد الرئيس والمنظمة، وحتى تنجح الحكومة بها فهي بحاجة إلى إقرار الرئيس والقيادة الفلسطينية مقاربة جديدة فيما يتعلق بكيفية إنهاء الاحتلال والمفاوضات وما يسمى "عملية السلام"، واتفاق أوسلو والتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وإحباط "صفقة ترامب" والمخططات الاحتلالية، لأن المقاربات المعتمدة سابقًا ولا تزال كما يدل خطاب التكليف والرد عليه، لم تنجح، وزادت الطين بلة. أما الحكومة فعليها وضع خطة تفصيلية ملموسة تتضمن المهمات التي يمكن تحقيقها حتى يمكن المحاسبة عليها.
أما فيما يتعلق بالإدارة والخدمات والاقتصاد والقضاء والحريات والمكاشفة والتقشف وهيكلة الموازنة وتعزيز صمود القدس ورفع العقوبات عن قطاع غزة، وعدم فرض عقوبات جديدة، فيمكن أن يترك بصماته ولكن من دون إحداث اختراق، بسبب وجود معيقات ضخمة تواجهه في ظل أزمة السلطة السياسية والاقتصادية المتفاقمة والمعرضة للتفاقم.
ما يجعل إمكانيات رئيس الحكومة للعمل محدودة عودة النظام السياسي الفلسطيني في عهد الرئيس عباس، وخاصة بعد وقوع الانقسام، إلى سيرته الأولى نظامًا رئاسيًا، وليس مختلطًا كما حدث بعد استحداث منصب رئيس الحكومة في أواخر عهد الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي أُجبِر على توزيع سلطاته وصلاحياته بينه وبين رئيس الحكومة، إذ عاد الرئيس ليجمع بيده كل السلطات والصلاحيات بصورة فاقت بكثير ما كان يتمتع به الرئيس عرفات، فضلًا عن أن الحكومة وفق النظام الأساسي هي حكومة الرئيس، وبرنامجها برنامجه، ولن تنال الثقة من المجلس التشريعي المنحل شأنها شأن الحكومات السابقة بعد الانقسام، ولن تتعرض للمساءلة والمحاسبة إلا من الرئيس.
إن الأمر الحاسم الذي نحكم على أساسه نجاح الحكومة من عدمه هو في أي اتجاه ستسير: هل نحو تطبيق قرارات المجلس الوطني، والانفكاك عن الاحتلال والالتزامات المعقودة معه، التي لم يشر إليها خطاب التكليف ولا الرد عليه لا من قريب أو بعيد، أم نحو التمسك ببقايا "أوسلو" مع محاولة السعي لأكبر التزام إسرائيلي به، بما يؤدي إلى احترام هيبة السلطة ووقف الاقتحامات والتدخلات من قوات الاحتلال في المدن والمناطق المسماة (أ)، وتحسين شروط التبعية الاقتصادية، وما شابه ذلك.
في ضوء أي خيار ستختار يتحدد الموقف منها، لذلك فإن الموقف السليم وضع شروط ومتطلبات المشاركة في الحكومة لتكون ضمن سياق تغيير المسار، وهذا صعب لكنه أكثر صوابًا من إعلان المقاطعة.
قلنا ونؤكد وسنبقى نؤكد للمرة المليون، أنه أمام المخاطر المشتركة التي تهدد القضية والأرض والشعب، وتهدد النظام السياسي والقيادة والقوى على أنواعها، لا بد من إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، ضمن حل الرزمة الشاملة الذي يجب أن يُطبق بشكل متوازٍ ومتزامن ومتدرج، بما يحقق شراكة حقيقية، يقوم فيها كل طرف بواجبه ويأخذ كل ذي حق حقه.
وضمن هذا الحل تكون الانتخابات تتويجًا لتوحيد المؤسسات وللوفاق الوطني، لأن الانتخابات من دون توافق، وفي ظل الانقسام وتدخلات الاحتلال وأطراف مختلفة، لا يمكن أن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، ولن تكون شاملة الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة.