رام الله - خاص قُدس الإخبارية: "أوصيك يا بني بأمك وأخواتك وأخيك محمد لن تبقى طويلا في الأسر ستكون حرا وتعود للمنزل".. كانت تلك الكلمات التي وجهها الأسير عمر البرغوثي لنجله عاصف في معتقل "عوفر" قبل أيام من تحرره، بينما هو يمضي حكما إداريا لثلاثة شهور تضاف إلى أكثر من 26 عاما في الأسر.
مساء الثاني عشر من كانون أول العام الماضي، حاصرت قوة خاصة من جيش الاحتلال مركبة يستقلها الشاب صالح البرغوثي في قرية سردا شمال رام الله، وأطلقت النار عليه واعتقلوه، ليتوجه والده عمر إلى المكان يستفسر ويسأل ماذا حصل مع نجله، ليغادر بعدها نحو قريته كوبر عقب اقتحامها، حيث داهمت قوة كبيرة من جيش الاحتلال المنزل، استنفار كبير وتفتيش دقيق، تحقيق ميداني مع عمر، أبلغه الضابط الإسرائيلي بعد أن ورده اتصال، أن "صالح مات"، وفي منزله اعتقلوا نجله الأكبر عاصف ومجموعة من الشبان.
وتقول إقبال البرغوثي لـ "شبكة قدس" إنه قبل اعتقال والدها من المنزل، قال لأمها: "إذا صالح معتقل ربنا يفك أسره، وإذا صالح جريح ربنا يشفيه".. دون أن ينطق كلمة عن استشهاده، في الوقت الذي بقيت أمها تنفي كل ما يتدواله الناس عن استشهاد صالح، حتى قبل آذان الفجر وقفت تصلي العشاء، وأثناء صلاتها وقفت وقالت "صالح استشهد".
في الوقت الذي اقتاد جيش الاحتلال عمر ونجله عاصف لمستوطنة "بيت إيل" ومنها لمعتقل عوفر، وفي اليوم التالي لـ"المسكوبية" وبدأ التحقيق معهما مباشرة، كانت الأسئلة تدور حول عاصم ومكانه وأصدقائه، وكل ما يتعلق به ففي الأيام التسع الأولى كان التحقيق يستمر لخمس ساعات متواصلة.
وكان عاصف يظن أن شقيقه صالح مصاب، ولم يعلم أنه ارتقى شهيدا، وبعد أسبوعين من اعتقاله عقدت له محكمة حضرتها زوجته وشقيقته اقبال، فسأل عن جرح صالح، فأجابته شقيقته أن صالح استشهد، لم يتمالكا نفسيهما وانفجرا باكيين، إلا أن اقبال قالت له:"صالح نال الشهادة يا خوي، وهو فخر النا، كن قويا"، إلا أن القاضي هددها وأمرها بالسكوت وإلا سيخرجها أو يعتقلها.
أما عاطف البرغوثي فيروي لــ "شبكة قدس" تفاصيل ما جرى معه لاحقًا قائلاً: "عدت بعدها لمركز "المسكوبية" ولأربعة أيام كنت أسمع صوت ضحكات صالح في الزنزانة، فكنت أرفع الأغطية لأتأكد إذا ما كان معي، وعندما كان السجانون يقتادونني لغرف التحقيق، كنت أرى الزنزانة المجاورة لي قفلها منزوع، وعندما أعود، أقرع جدران الزنزانة وأصرخ وأنادي على صالح".
ويضيف: "إنه كان يقرأ له آيات القرآن، وينعيه بصوت عال:" تنعى قرية كوبر ابنها الشهيد صالح البرغوثي"، كما كان يغني له "يما شفته وين تصاوب، وغمضت عيونه، يلي سامعين الصوت جنب صالح خلوا صالح يفتح عيونه" فيفتح السجان طاقة الزنزانة ويصرخ ويشتمني".
لم يتطرق المحققون خلال التحقيق مع عاصف لأي معلومة عن استشهاد صالح، إلا بعد أن أخبرته شقيقته، فبدأ الضغط عليه ومحاولة تحطميه، فكان المحقق يقول له مرات عديدة إنه سيعرض عليه صورة صالح بعد أن قتلوه، ليعرضوا صورة لشخص ممدد على أرضية غرفة ومغطى بغطاء أبيض، لم يصدق عاصف وطلب أن يرى صورة تظهر وجهه، إلا أن المحقق بدأ يقسم له أنه صالح.
ويبين عاصف أن المحققين أيضا حاولوا عرض الصورة على والده، إلا أنه رفض أن يراها، لأنه يريد أن يتذكر صورة صالح كما يحفظها، كما كان يسمع صوت المحققين وهم يصرخون على والده للضغط عليه.
في الخامس من الشهر الماضي اعتقل جيش الاحتلال شقيقهم الأصغر محمد البرغوثي، وتعرض للضرب على كافة أنحاء جسده بأعقاب البنادق وأقدامهم، وتم نقله للمسكوبية وحققوا معه عن عاصم.
الحرية مقابل عاصم
هدد المحققون عمر وولديه بأن عاصم سيلاقي نفس مصير صالح، وسيقتلونه إذا لم يكشفوا عن مكانه. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان المحققون يساومونهم بالحرية مقابل الاعتراف عن مكان عاصم.
ويوضح عاصف:"ساوم المحققون والدي قائلين له إنهم سيفرجون عنه مقابل تسليم عاصم لهم، إلا أن والدي رفض أن يسلم ابنه بيده، حاولوا معه بطريقة أخرى وقالوا إنهم سيجرون مقابلة صحفية معه ويوجه فيها رسالة لعاصم لتسليم نفسه، إلا أنه قال لهم بعيدة عن عينكم".
ويضيف أن المحققين ساوموه ومحمد لتسليم عاصم، قائلين:"إذا أردتم أن يبقى عاصم على قيد الحياة ولا يتلقى مصير صالح اعترفوا، وستكونوا بعدها أحرارا"، فرد عاصف عليهم:"لن أساوم على أخي بحريتي".
في إحدى جولات التحقيق، قال المحقق لعاصف إن عاصم كان يردد مقولة "مش عاصم اللي بنيم ولاده برة" لم يسمعها شقيقه من قبل، فسئله المحقق ماذا يقصد بها.
في الثامن من الشهر الماضي اعتقل جيش الاحتلال عاصم البرغوثي في قرية أبو شخيدم، عاصف وبعد اقتياده لأخذ إفادته لشرطة الاحتلال وبصماته، قال له المحقق:"في الك عنا خبر حلو، اعتقلنا عاصم وهو جريح" وكان مبستما، فرد عاصف بالدعاء لشقيقه، ما أثار غضبه.
جولات التحقيق مع عاصف عقب اعتقال عاصم أصبحت مرة كل ثلاثة أيام، وحكمت عليه المحكمة ثلاثة شهور إداريا، وعاد للمسكوبية لثلاثة أسابيع رغم أنه يجب نقله، إذ أمضى هناك 40 يوما، أما شقيقه محمد أمضى 20 يوما في المسكوبية، وحضرت والدته أول جلسة محكمة له وطلب منها أن لا تحضر بسبب التعب، وحتى لا تراه أسيرا، لكنها كانت تمده بالقوة والشجاعة وترفع من معنوياته قائلة له:"اوعى تاكل الهم يا بني، وانت الحمدلله جبل لاقيتك"، أما لعاصف:"شد حالك يما، صارلنا بيت بالجنة، وصالح نال الشهادة، كون قوي زي ما عرفتك".
جمل المحامل
نُقل عاصف لسجن عوفر، وهناك التقى بوالده، سلّم عليه وقبل يديه ورأسه، حضنه وبدأ بالبكاء لأنهما أول مرة يلتقيان بعد استشهاد صالح واعتقالهما، كانا يستذكران صالح في الأسر بالحديث عن صفاته وحياته، وفي كل مرة كان عمر يوصي نجله بالعائلة والأبناء، يمده بالقوة والصبر، فيقول عاصف عن أبيه:"أبي جمل محامل".
كما التقى محمد بوالده وشقيقه في "عوفر"، وكانا يزورانه في قسمه، يرفع والده من معنويات ولده الذي لأول مرة يخوض تجربة الاعتقال، يربت على كتفه ويقول له:"يا محمد صالح نال الشهادة وعاصم اللي مكتوبله بده يصير".
في العاشر من الشهر الحالي تحرر محمد وبعده بيومين أخاه عاصف، إلا أنه حريتهما كانت منقوصة، تحررا ووالديهما وأخيهما عاصف معتقلين وصالح شهيد، المنزل فارغ من سكانه، إلا أن العائلة كانت تُبقي باب منزل عمر مفتوحا لزواره.
كانت وجهة عاصف الأولى لمنزل والده، التقى بأقاربه وأهله، وتوجه بعدها لمنزل شقيقه الأقرب له ومن كان يعتبره ابنا له وليس أخا، دخل بيت الشهيد صالح، فوجده فارغا من محتوياته، لم يتمالك نفسه توجه لغرفة نومه، وهناك بدأ بالبكاء والنداء على صالح.