ملك السوس والتمر هندي؛ حين عملت في محليه المخصصين لبيع العرقسوس والعصائر في مخيم اليرموك عام 2008، لم أكن أعلم أنه وأسرته العاملة في التجارة إحدى العائلات المسيحية القليلة التي تقطن المخيم ويعيش أفرادها جنبا إلى جنب مع أخوتهم المسلمين.. وحقيقة ﻻ يهمني ذاك الفارق كثيرا بقدر ما هو إثبات للتعايش الطيب في محيطي مرجع داخليتي فضلا عن ضرورة سرده هنا من بابي الثقة والتوثيق.
كنت مقبلا على الجامعة في الصيف السابق لبدء العام الدراسي الأول لي حين عملت في محلي العرقسوس، وصبغ قميصي الرياضي الأزرق العزيز علي والذي اقتنيته قبيل فوز متنخبي المفضل إيطاليا بكأس العالم 2006 بسواد "الشربات" السوداء، إﻻ أنها لم تكن داكنة كلونها بل بيضاء مثل برستيج أصحابها المجدّين.
أكثر ما اعتقدته آنذاك أن (أبو الشكر) هو لقب العائلة اللاحق ﻻسم أي من أفرادها بمن فيهم نجلي "الحج" العاملين في متجريه التراثيين العصريين.
ولم يثر استهجاني أبدا نداء معظم جيران (أبو الشكر) له بالحاج رغم كونه مسيحيا، بل زد على الشعر بيتا أن كان ابنه (معلمي في العمل) يكرر جملة إسلامية لنا نحن العاملين: "أجركن على الله.. الله يجزيكن الخير".. وفي ذاك تآخ وذكاء بلوني دمشق وحيفا.
أتذكرني صافحت الحاج (أبو الشكر) مرة واحدة في فترة عملي بمتجره على شارع اليرموك، حيث كان كبير السن ﻻ يقوى على مواظبة المجيء اليومي إلى المحل، بل يزوره بين فترة وأخرى.. وأكثر ما يحب أن يجلس على كرسي بلاستيكي يضعه عند نهاية الرصيف قبالة المتجر ليراقب سير العمل وحركة المارة عن بعد باتخاذ زاوية تجلب ما يكفي من الحكمة..
ولأنه يشبه بعضا من جديي الفلاحين في ملامح وجهه وابتسامته وقلة كلامه الذي لم يجعله يأبه يوما للسؤال عن اسمي أو أصلي أو فصلي، شعرت بقربه إلى قلبي وأيقنت حقيقة أن القروي ولا سيما الفلسطيني يمكنه التمدن والحفاظ على طيبته معا، ويتقبل الآخرين بجميع حللهم، وبقيت مؤمنا بذلك حتى يومي هذا.
نجلاه العاملان في المتجرين خبيران للغاية في صناعة العرقسوس والعصائر، ولقد تعلمت منهما الكثير من الأشياء التي لم أنسها ﻻحقا رغم قصر فترة عملي... إذ خبرت أول ما خبرت منهما المزج بين إسقاطات فلسطينيتهما وسوريتهما على مهارات العمل وكسب الزبائن والذكاء الصناعي والخبرة وصوﻻ إلى تسيد السوق والسمعة الحسنة وهذا حتما نتاج كدح "الحج".
وكان فريق العمل في متجر (أبو الشكر) على شارع اليرموك خلال وجودي المقتضب المكثف، مكونا من شابة سورية طيبة اسمها غاب عن ذهني، والأهم أنها كانت مواظبة تساعد أسرتها في المصروف قالت لي ذات يوم "مبيّن من شكلك فلسطيني سيماهم في وجوههم"، إضافة لشقيقين عراقيين هجرتهما الحرب من بلدهما وحملا هم الدنيا منذ الصغر، ومع ذلك حملا إلينا بكرم أطعمة عراقية لذيذة المأكل مرات عدة... وأنا المستجد الذي لن يمكث سوى عشرة أيام؛ تعلمت فيها حب الناس وبعضا من المسؤوليات المفقودة آنذاك والتي مازالت كذلك نظرا لطفوليتي المتشبشبة.
وعلمت فيما بعد أن الحاج (أبو الشكر) مثل سوريا في عديد المناسبات بمعارض ومسابقات تتخصص في صناعة العرقسوس والعصائر نظرا لخبرته المتناهية وعمرها التراكمي بأكثرية سني ما بعد النكبة...
وﻻ بأس في تمثيله لسوريتي الفلسطينية؛ فالأهم أنه ممثلي في طقوس رمضان اليرموكي العظيم بقنينة عرقسوس أصلي.. وهو مراقبي الخفي في مسيري إلى موقع عمل أمي شرقا، ومطاردي المعنوي في مراهقتي عندما أﻻحق إناثي المتبرجات غربا..
توفي أبو الشكر قبل أكثر من عام مهجرا عن مخيمه بعيدا عن رزقه وحاضنته التي أحبها وأحبته هناك، حيث لم ينفصم عن فلسطينيته وامتدادها الشامي يوما.
علمت مؤخرا أن اسمه الأصلي ﻻ المهني هو (أبو بشير الحلتة من مدينة اللد الفلسطينية المهجرة العام 48 والمسجل في قيود هيئة اللاجئين الفلسطينيين العرب وتذكرة الإقامة المؤقتة السورية _الهوية_ من حيفا) وسكن قرب فرن الحصري في اليرموك قبل خمسة عقود.
وخبرت أن عائلته وعائلة العيلبوني هما أبرز عائلتين مسيحيتين من ﻻجئي فلسطين إلى اليرموك وانغمستا في الجو الاجتماعي والعمل الوطني داخل المخيم، وهو ما زادهما قدرا لدي مع استدراك وجود عائلات مسيحية أخرى في المخيم أمثال: "قبطي وخيشبون ومريش والطرزي ... ونصر الله وآخرين" نقلا عن الأستاذ الكاتب علي بدوان.
وفي الذاكرة الجمعية ازدادني اليرموك من قصص العراقة والاجتهاد بعصامية (أبو الشكر) وكدحه، لتصير يقظتي على هيئة ختم فلسطيني سوري أو ربما طابع يستحق النقش وساما على جدران الشام وأخواتها الجنوبيات الفقيرات ذهبا عتيقا إلى الأبد.
أيها الحاج الكنعاني السرياني.. اسقنا سوسا وتمرا في الجنة، فاليرموك الذي أحببت لم يعد موجودا وأصبح يشبهك أكثر أن صار من الذاكرة وسيبقى كذلك إلى الأبد.
سلاما إلى روحك المثابرة..