عقدت دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية ندوة بعنوان "العمل الفدائي المغيب ووهم المواطنة والتمثيل في فلسطين" وذلك ضمن سلسلة محاضرات تعقدها الدائرة حول فكرة مكافحة التمرد في فلسطين. تمحورت الندوة حول موضوعين أساسين، الأول: التاريخ المغيب للعمل الفدائي في فلسطين، والثاني: المواطنة في فلسطين كآلية استعمارية لمكافحة التمرد وإخفاء الشعب الفلسطيني.
تأتي هذه الندوة كمحاولة لإعادة التأريخ والاعتبار لتجربة العمل المسلح في فلسطين، والذي تم تغيبيه على المستوى الأكاديمي والمستوى السياسي باعتباره غير مريح للاتجاهات السياسية التي ارتضت أن تكون جزءاً من منظومة السلطة الصهيونية.
تم التركيز في الندوة على مناقشة وطرح تجربة الكفاح المسلح في فلسطين المحتلة عام 1948 والذي يطلق عليه البعض مصطلح الداخل الفلسطيني، بالإضافة إلى المحطات الرئيسية في تجربة الكفاح المسلح منذ عام 1948، ومجموعة الإجراءات والتضيقات التي تم استعمالها من قبل الإحتلال الصهيوني لمواجهة الكفاح المسلح.
قام بتغطية المحور الأول من الندوة السيد منير منصور عميد الأسرى المحررين في مجد الكروم، وهو من الأسرى المحررين في صفقة التبادل عام 1985، ورئيس جمعية أنصار الأسير التي تأسست عام 1979، وهي أول جمعية مهتمة في قضية الأسرى الفلسطينيين.
يؤكد السيد منير على أن وجود الفلسطينيين في الداخل المحتل هو الشاهد المتبقي على عروبة فلسطين، في العام 1948 كان عدد الفلسطينيين المتبقين لا يتجاوز الخمسين ألف، واليوم وصل عددهم إلى مليون ونصف شخص وبالكاد أحد يذكرهم ولولا وعي الناس لكان الوضع الفلسطيني أسوأ مما هو عليه الأن، ويضيف بأن النضال اليومي لهم مستمر منذ عام 1948 فنجاحهم بالحفاظ على اللغة العربية والجزء المتبقي من الأرض هو بمثابة مقاومة يومية. ويلوم السيد منير كيف أن الداخل الفلسطيني أصبح غير موجود في الوعي الفلسطيني العام فمثلاً تتم الإشارة إلى قرى مناطق جنين بأنها المنطقة الشمالية من فلسطين، متجاهلين أن مجد الكروم وغيرها من القرى هي جوهر الشمال الفلسطيني.
تاريخ الكفاح المسلح في الداخل الفلسطيني
1- تميزت الفترة الواقعة ما بين عام 1948 وعام 1965 بأنها كانت حالة من الضياع نتيجة للصدمة التي رافقت انتهاء حرب عام 1948، بالإضافة إلى الحكم العسكري الذي أثر على طبيعة العمل المقاوم، إلا أن الوضع أخذ بالتغيير عندما بدأت الإتصالات مع حركة القوميين العرب وتأسيس حركة النهضة التي وفرت غطاء للعمل المقاوم المسلح. امتدت حركة النهضة من النقب حتى رأس النافورة وأصبح هناك تجربة مطاردين في الداخل الفلسطيني. كان من السهل كشف الناس المقاومين، لأنه وبمجرد التلفظ بكلمات معينة كانت تعكس النفسية المقاومة الموجودة لدى الشخص، حيث أن الإختراق الأمني لعب دوراً ملحوظاً في هذا الجانب، وذلك بسبب الصدمة والخوف الذي أصاب الناس في تلك الفترة.
2- يذكر أنه تم منع الاستماع لإذاعات صوت العرب والقاهرة ودمشق، وكان من تثبت عليه تهمة سماع أحد تلك الإذاعات أو أحد خطابات جمال عبد الناصر يتم اعتقاله لمدة ستة أشهـ بالإضافة إلى منعه من الحصول على تصريح عمل لمدة سنة كاملة.
3- كان هنالك مركز شرطة في كل قرية عربية وذلك بسبب خوف الإحتلال من قيام ثورة بعد انتهاء حرب عام 1948.
4- في فترة السبعينات والثمانينيات كانت قضية الأسرى من ضمن أولويات العمل المقاوم، ويظهر ذلك من خلال العمليات التي كان هدفها تبادل الأسرى، وكانت عملية التبادل التي نفذتها الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في العام 1985 من أهم وأنجح عمليات التبادل في تاريخ المقاومة الفلسطينية، حيث أن شروط التبادل كانت صعبة وقوية بمقارنتها مع عمليات التبادل الأخرى وعلى رأسها صفقة شاليط لتبادل الأسرى. في صفقة العام 1985 خرج جميع من يحملون أحكام مؤبدة، والنساء والأطفال وكبار السن بما في ذلك أسرى القدس والداخل، بينما صفقة شاليط لم تشمل 600 أسير يحملون أحكام مؤبدة كما أنها لم تشمل جميع النساء المعتقلات.
الفطرة الفلسطينية
من أهم عوامل نجاح تجربة الكفاح المسلح في الداخل الفلسطيني هو تمتع الناس بالفطرة التقائية الفلسطينية التي تتمحور حول أن البلد محتل من قبل اليهود، وأن علينا استرداد البلد من المحتل، وهنا يذكر السيد منير إحدى القصص الطريفة عن الانتماءات الحزبية في الداخل الفلسطيني. يقول السيد منير أنه توجه ومجموعة من أصدقائه إلى لبنان مشياً على الأقدام حتى وصلوا إلى مخيم الرشيدية في صور في لبنان، وشاءت الصدفة أن يكون أحد أقارب صاحبهم من تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي اصطحبهم بدوره إلى أحد معسكرات الجبهة الشعبية. كان من ضمن المجموعة شخص أمي لا يتقن القراءة والكتابة وما إن رأى أحد الشباب يوزع عليهم كتب لينين وماركس لقراءتها صرخ قائلاً " شو ببيع ماركس ؟ أنا بدي أحارب" فما رد الشاب " بدك تحارب روح ع فتح، واصطحبهم إلى معسكر حركة فتح" تعرض الشاب الأمي للاعتقال وتعلم القراءة والكتابة في السجن وخرج في صفقة التبادل التي حصلت عام 1985 واستشهد فيما بعد.
اتفاقية أوسلو كوسيلة من وسائل مكافحة الكفاح المسلح
بتوقيع اتفاقية أوسلو تنازلت السلطة الفلسطينية تلقائياً عن الجزء الأكبر من فلسطين، حيث أن القرار السياسي الفلسطيني أثر على مدى إيمان الناس في تبني عمليات المقاومة وبالذات الكفاح المسلح وأدى إلى تراجع الحس الوطني لدى الناس. بعد اتفاقية أوسلو تم عزل مناطق ال 1948 بشكل رسمي، وأصبحت السلطة تتعامل مع الفلسطينيين بقولها لهم " ناضلوا من أجل حقوقكم اليومية، وليس كفلسطينيين يناضلون من أجل أرضهم التي احتلها اليهود".
الإنتفاضة الثانية
بعدما عمت الإنتفاضة الثانية جميع المناطق في فلسطين، عاد الحس الوطني لسابق عهده فخرجت المظاهرات والمسيرات في كافة القرى والبلدات العربية، وهو الأمر الذي لم يرق للسلطة الفلسطينية حيث قامت باستدعاء بعض الشخصيات المؤثرة في الداخل الفلسطيني مثل الأستاذ منير منصور وطلبت منه ومن آخرين أن لا يقوموا بإحراج السلطة و " أنهم سودوا وجههم مع الحكومة الإسرائيلية"، في ذاك الوقت طلب أبو مازن ولم يكون وقتها رئيس السلطة الفلسطينية بعد، وممثل منظمة التحرير الفلسطينية في تشيكوسلوفاكيا أن يشاركوا في مظاهرات سليمة أو يقوموا بالاعتراض من خلال الكنيست الإسرائيلي.
في القسم الثاني من الندوة قدمت الكاتبة والناشطة رجاء زغبي عمري مداخلة بعنوان "المواطنة في فلسطين كآلية استعمارية لمكافحة التمرد وإخفاء الشعب الفلسطيني" وكان جوهر المداخلة يدور حول الفكرة التالية:
" لسنا أصحاب الأرض "الأصليين"، نحن أصحاب الأرض الشرعيين
"أصلنة الشعب الفلسطيني" و"حقوق الأقلية الأصلانية" أدوات معرفيّة لإخفاء الشعب الفلسطيني سياسيًا بعد نفيه جسديًا: أخطر مزالق "الخطاب الحقوقيّ" في إطار النقد الديمقراطي للصهيونية، اعترافه بالحق الصهيوني على أرض فلسطين، واشتقاق حقوقنا من الحقّ الصهيوني (هذا هو جوهر "العدالة والإنصاف" اللذان يحدّد شروطهما ويمنّ بهما الظالم على المظلوم والمنتصر على المهزوم والقويّ على الضعيف). /// في إطار الحلّ "على أساس الدولتين" نشأ أوسطَ السبعينيات خطاب "حقوق الأقلية العربية" في الدولة اليهودية، وضمن تأزيم الهُوية الوطنية انتصبَ في التسعينيات السؤال "من نحن؟" كمجرّد صدى لسؤال الدولة اليهودية "من أنتم؟". أصحاب الأرض "الحاليّون" هم يطرحون الأسئلة على أصحاب الأرض الأصليّين الذين أصبحوا الآن "أقلية أصلانية"، "أقلية وطن" ويطالبون الدولة اليهودية إنجاز وعدها: الاعتراف بنا "أقلية قومية".. (وكانت هذه الخطوةَ الأولى على طريق شطب العودة والاعتراف بدولة فلسطين كدولة الغرباء فيها والمغتربين عنها، دولة "أينما وُجدوا."
وقد أشارت أيضاً إلى ضرورة الإنتباه للمصطلحات المؤسسة للخطاب السياسي لما بعد أوسلو لليوم، وكيف أنه يتم استعادة خطاب حقوقي بنفس مضامين خطاب التسوية في عام 1948. كما نبهت إلى أنه يتم إعداد جهات مختصة في إعداد الرواية الفلسطينية الجديدة، حيث تتكون تلك الجهات من قوى سياسية، وقوى المجتمع المدني التي تخوض في البعد النفسي وتعمل على كسر الحاجز النفسي ما بين المجتمعيين الفلسطيني والإسرائيلي، وتتعامل هذه القوى مع المجتمع على أنه كتلة غوغاء تمثل خطر لأنها الأغلبية، ويتم التعامل مع الجماهير على أسس احتواء الثورة الكاملة.