غدًا سيعقد المجلس المركزي دورته الأولى بغياب المقاطعين وغير المدعوين أصلًا لدورة المجلس الوطني، أي بغياب الجبهة الشعبية وحركتي حماس والجهاد ومستقلين، والجبهة الديمقراطية التي قررت مقاطعة الجلسة، على خلفية التجاذبات التي حصلت في ظل عدم رفع العقوبات عن قطاع غزة، وتهميش المؤسسات، وبعد إسقاط عدد من قرارات المجلس الوطني من البيان الختامي، وتجاوز العديد من القرارات عبر مسلسل الإحالة لها التي شملت نقل مسؤولية دائرة المغتربين للرئيس بدلًا من ممثل "الديمقراطية".
بدأت دوامة الإحالة منذ عقد المجلس المركزي في العام 2015، إذ أحال المجلس قراراته المتعلقة بالعلاقة مع الاحتلال والتنسيق الأمني وتبعية السلطة الاقتصادية لإسرائيل إلى اللجنة التنفيذية، التي بدورها أحالتها إلى اللجنة السياسية التي أعادت إحالتها لـ"التنفيذية"، التي كررت نفس الشيء بإحالتها مجددًا إلى المجلس المركزي الذي أحالها إلى المجلس الوطني، الذي بدوره أحالها في دورته الأخيرة إلى اللجنة التنفيذية التي أحالتها إلى اللجنة المشكلة لتطبيق قرارات المجلس الوطني التي أحالتها مرة أخرى لـ "التنفيذية" التي أحالتها مرة ثالثة إلى المجلس المركزي، الذي من المتوقع أن يمارس نفس الشيء أو "يبق البحصة ويكشف المستخبى". كيف يمكن تفسير ذلك؟
التفسير الأرجح و"المستخبى" المعلوم بأن صاحب القرار الأوحد غير مقتنع بهذه القرارات، ويرى أنها غير مناسبة ولا نستطيع دفع ثمنها، وبدلًا من أن يحاول إقناع المؤسسات برأيه، أو يطالب بتطبيقها بالتدريج وفق الممكن، أو يخضع لرأي الأغلبية التي تضم نسبة وازنة من حركتة فتح، اختار عملية الإحالة المسيئة التي طالت أكثر ما ينبغي، وأصبحت علامة على غياب المؤسسة والعمل الجماعي وطغيان العمل الفردي.
حتى أكون أمينًا، قد لا يمكن تطبيق قرارات المجلسين المركزي في دورتيه الأخيرتين والوطني في دروته الأخيرة فورًا، لأن سحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني وإلغاء بروتوكول باريس الاقتصادي، يعني إنهاء اتفاق أوسلو، الذي سيترتب عليه ردة فعل إسرائيلية وأميركية معادية، وربما ردة فعل سلبية دولية وأوروبية وحتى من بعض الأوساط العربية، وهذا سيقود إلى مجابهة فلسطينية – إسرائيلية، ربما تكون شاملة، في وقت الفلسطيني غير مستعد لها في ظل استمرار الانقسام وتآكل المؤسسات وحالة التوهان التي تعبر عن نفسها بفقدان إستراتيجية موحدة بديلة عن الإستراتيجيات التي وصلت إلى طريق مسدود.
لم يكن اتفاق أوسلو مجرد اتفاق بحيث يمكن إلغاؤه – ببساطة – بجرة قلم، وإنما بنيت عليه بنية كاملة (سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية أمنية)، وأوجد شرائح وأفرادًا تستفيد منها، وازدادت نفوذًا وثروةً، ومن مصلحتها الحفاظ على هذا الواقع. وبالتالي فإن التخلص منه ضروري وواجب وملحّ، ولكن ضمن رؤية جديدة وعملية تدريجية نعرف متى تبدأ ومتى يمكن ويجب أن تنتهي.
إنهاء التزامات أوسلو واجب وطني، ولم يعد مقبولًا تأخيره، لا سيما بعد السياسات والإجراءات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة المتمثّلة في خلق حقائق احتلالية وعنصرية على الأرض، التي وصلت ذروتها بعد طرح "صفقة ترامب" والشروع في تنفيذها من خلال نقل السفارة وتصفية وكالة الغوث وشرعنة الاستيطان، وبعد إقرار قانون القومية، الذي يعدّ انتقالًا من إدارة الصراع إلى تبني أطروحة فرض الحل الإسرائيلي من جانب واحد مستفيدًا من انتقال الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب من الدعم الكامل لإسرائيل إلى الشراكة الكاملة مع الاحتلال واليمين الإسرائيلي.
إن التخلي عن "أوسلو" يتناقض مع محاولات التشبث به رغم الكوارث التي أدى إليها، كما يظهر بالتمسك بإستراتيجية المفاوضات والتزاماته رغم التهديد اللفظي باعتماد إستراتيجية جديدة منذ قمة سرت العربية في ليبيا العام 2010 وحتى الآن. وإذا كان التخلي عنه ليس ممكنًا فورًا، فكان من الممكن وضع خطة لجعله ممكنًا منذ أن اتضح تخلي إسرائيل عنه وأنها استخدمته بما تضمنه من تنازلات فلسطينية جسيمة للانتقال إلى مرحلة جديدة في تطبيق المشروع الصهيوني المتمثلة بالسعي لإقامة "إسرائيل الكبرى". فبعد نكبة العام 1948 كان احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين في العام 1967، والآن تسعى لضم الضفة وطرد أكبر عدد ممكن من السكان وحشر ما تبقى منهم في معازل، أقصى ما يكن أن تحصل عليه حكم ذاتي.
من يريد تطبيق القرارات التي ضاعت في دوامة الإحالة المستمرة منذ سنوات والمرشحة للاستمرار عليه أن يوفر متطلبات البديل، إلا إذا اختار الحاكم بأمره أنه بمقدوره أن يعرب عن حقيقة موقفه، وأن لا بديل عن استمرار الرهان على أوسلو، وعلى ما يسمى "عملية السلام"، وعلى الولايات المتحدة، وإمكانية التغيير في إسرائيل، وذلك بعد هندسة المجلس المركزي على المقاس المطلوب، إذ ضُمَّ إليه في الأغلب أفراد وشرائح جديدة تغير طبيعته بشكل ملموس، وعمقت ذوبان المنظمة في السلطة. إن الركيزة الأساسية للبديل بلورة رؤية وطنية شاملة جديدة قادرة على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، والاستعداد لدفع الثمن المطلوب لتحقيقها، وليس التذرع بعدم استعداد " فتح" أو "حماس" التي لا نعفي أيًا منهما ولا الرئيس ولا القيادة المفترضة من المسؤولية.
إذا أراد الرئيس وقيادة منظمة التحرير الوحدة فعلًا، فلا تستطيع "حماس" ولا غيرها - وخاصة في ظل الحصار والمأزق الشامل الذي تعيشه - أن تقف في وجهها، وإذا وقفت ستفرض عليها الوحدة قسرًا، لأن غالبية ساحقة سياسية وشعبية ستدعم أي مساعٍ جدية لتحقيق الوحدة على أساس البرنامج الوطني وشراكة سياسية كاملة بعيدًا عن المحاصصة والهيمنة والتفرد، وستفُرض في هذه الحالة إرادة الشعب على جماعات مصالح الانقسام.
المطلوب من المجلس المركزي المفوض بشكل غير قانوني ولا معقول بصلاحيات الوطني كاملة، أن يدرك بأن لا شرعية لأحد في ظل الانقسام، خصوصًا بعد انتفاء مصادر الشرعية بمرور سنوات طويلة على الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وفي ظل غياب الانتخابات، تستمد الشرعية من الوفاق الوطني المبني على المقاومة والتمسك بالحقوق الوطنية، ومن الإنجاز الذي لا يستطيع أحد أن يدعيه، بدليل أن القضية الفلسطينية تمر الآن بواحدة من أخطر مراحلها، وربما أخطر من مرحلة ما بعد النكبة.
وعلى أساس هذا الإدراك بأن شرعية المجلس المركزي ناقصة، فعليه أن يمتنع عن اتخاذ خطوات جديدة من شأنها أن تزيد الموقف سوءًا وتكرس الانقسام، مثل إعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا، ومواصلة الإجراءات العقابية المفروضة على قطاع غزة وعدم رفعها، وحل المجلس التشريعي، والمصادقة على التجاوزات التي مورست في المجلس الوطني من خلال عدم انتخاب رئيس الصندوق القومي من المجلس الوطني مباشرة كما ينص النظام الأساسي للمجلس، وعملية الانقلاب التي ظهرت عند توزيع دوائر منظمة التحرير.
ختامًا، من أهم القرارات التي بمقدور المجلس المركزي أن يتخذها:
تكليف اللجنة التنفيذية بالدعوة إلى حوار وطني شامل ضمن مدة قصيرة يتفق عليها لبلورة رؤية وطنية شاملة قادرة على التصدي للتحديات والمخاطر والحقائق الجديدة، وأبرزها "صفقة ترامب"، وقانون القومية، وسياسية فرض الحقائق الاحتلالية على الأرض.
تشكيل لجنة تحضيرية تضم مختلف ألوان الطيف للتحضير لعقد مجلس وطني جديد خلال مدة قصيرة.
تشكيل حكومة وحدة وطنية تقوم بإعادة هيكلة السلطة ووزاراتها وجهازها الوظيفي على أساس الكفاءة والخبرة والأولويات والاحتياجات والمصالح العليا الفلسطينية، وبتوحيد المؤسسات المنقسمة ومعالجة آثار الانقسام، وإعادة بناء وتوحيد الأجهزة الأمنية على أسس مهنية بعيدًا عن الحزبية.
توفير مقومات صمود الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه.
إعادة الاعتبار لمؤسسة اللجنة التنفيذية ولمختلف المؤسسات الوطنية الفلسطينية التي أصبحت غائبة ومغيبة في ظل استشراء الهيمنة والتفرد والفردية، التي كرست تحولها إلى فريق وهيئة استشارية وليست قيادة عليا وهيئة ائتلافية وطنية.
ما هو مطروح ليس من المتوقع أن يقوم به المجلس المركزي لأنه اختير لأغراض أخرى، ولكن لا بد من وضعه أمام مسؤولياته وعدم إضاعة أي فرصة لتحقيق أي مطلب من المطالب المذكورة، وعمل كل ما يمكن لمنعه من اتخاذ ما من شأنه مفاقمة الوضع السيئ وجعله أسوأ.
هنا أخاطب الجميع، وخاصة القوى والعناصر الأكثر حرصًا على القضية الفلسطينية داخل المجلس المركزي وخارجه بالقول إن الوقت من دم والتاريخ لن يرحم والشعب لن يغفر لكل عضو من أعضاء المجلس ولمن هم خارجه إذا لم يقوموا بواجبهم بحماية القضية والأرض والشعب والمؤسسات بأقصى ما يمكن القيام به، ولن يُقبل من أحد أن يبرر تقاعسه وتنصله من المسؤولية.