غزة - خاص قدس الإخبارية: لم يكن حال الطبيب داوود الشوبكي كغيره من الأطباء الذين يطببون ويعالجون جرحى مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار، كيف لا وقد أصيب نجله خلال مشاركته بمليونية العودة الكبرى على الحدود الشرقية لمدينة غزة في آيار/ مايو الماضي.
الطبيب الشوبكي حاول على مدار أسابيع أن يساهم في الإبقاء على نجله حياً بالرغم من إصابته الخطيرة التي تعرض لها برصاص قناص إسرائيلي بالرقبة على حدود قطاع غزة أدت لإصابته بشلل رباعي قبل أن يرتقي شهيداً مؤخراً.
ويروى الطبيب الشوبكي لـ"قدس" تفاصيل حياة ابنه الشهيد ساري (22 عامًا) والذي ارتقى الثلاثاء الماضي 17 تموز/ يوليو الجاري متأثرًا بإصابته جراء طلق ناري أصيب به، أثناء مشاركته بفعاليات مسيرة العودة الكبرى.
معاناة قديمة
"منذ ولادة فلذة كبدي وأنا أنقذ حياته متجولًا بين أسرة المستشفيات" بهذه العبارة التي انطلقت من فمه بعد تنهيدة عميقه تحدث الطبيب الشوبكي عن حياته ابنه منذ اللحظات الأولى لولادته، كيف لا وقد مكث لمدة ستة أشهر وأسبوع فقط في رحم أمه، وبعدها عاش في قسم الحضانة بمستشفى الشفاء بغزة وكان وزنه حوالي كيلو و200 جرام وبدأت صحته بالتدهور ما أدى لانخفاض وزنه إلى 900 جرام فقط.
ويضيف مستذكرًا تلك اللحظات: "في ذات يوم جاء خبر غير معهود عن ساري، فذهبت للمشفى مسرعًا لأجد جسده أزرقًا نتيجة انقطاع الاكسجين عن الرئتين، حينها أسعفته، ولو تأخرت لوهلة لكان ساري منذ لحظتها ذكرى في كتابنا المفتوح، لكن لطف الله أقوى من أية ظروف".
"أمامك 24 ساعة يا بيخرج ساري حي معافى أو بنقرأ الفاتحة على روحه"، يقول والد الشهيد لـ "قدس الإخبارية": "هذه الجملة قيلت لي من قبل طبيبه الخاص علمًا بأنها ليست بالهينة فأنا أب ولي مشاعر"، مضيفًا: "انتهت الـ 24 ساعة وساري بات حيًا فبمشيئة الله وأمره نُجّي من موت محقق".
بداية الحكاية
يستدرك والد ساري حديثه قائلًا: "أمضى ولدي طريقه رغم ذاك الألم إلى حين أصبح عمره 22 عامًا" وفي عامه هذا بدأت رحلة معاناة جديدة يخوض ساري غمارها، فأصيب شرق مدينة غزة قرب موقع ملكة أثناء تلبيته لنداء الوطن بطلق ناري غادر أطلقته قناصة الاحتلال المتمركزة على طول الشريط الحدودي.
ويوضح أن الرصاصة أخذت هدفًا في كتف ساري ما أدى لإصابته بشلل رباعي وصعوبة في التنفس بالإضافة إلى تأثر في النخاع الشوكي بحسب ما أفادت به التقارير الطبية الصادرة عن مستشفى الشفاء بغزة.
آلة الزمن توقفت لحظة، ليرجع بنا والد الشهيد للوراء ليقول: " في تاريخ 14 مايو من العام الجاري وفي تمام الساعة العاشرة صباحًا استحم ساري وارتدى أجمل ملابسه وذهب لطريقه"، مضيفًا: "جاءني خبر استشهاد ساري فذهبت مسرعًا لمشفى الشفاء باحثًا عن جثمان ولدي في ثلاجات الشهداء لكن دون جدوى ويكأن جسده قد تبخر فلم أجد له أية آثار".
وأردف: "تواصلت مع مستشفى العودة ومستشفى القدس لكن دون نتيجة أيضًا فرجعت لمشفى الشفاء غربًا مكذبًا سمعي وجميع الأقاويل التي دارت حولي، وأنا أحدث نفسي بأنها أخبارًا مضروبة".
شهيداً أم جريحاً
لحظات وجاء خبر وجود جثمان ساري في قسم الباطنة "استقبال الشفاء"، فذهب والده مسرعًا ليجد ساري ملقى على سرير وأسفله بركة من الدماء وطبع على صدره علامة مجهول رقم واحد.
استوعب الدكتور داوود الموقف، وقدم الاسعافات الأولية لولده وأعطاه 12 وحدة دم، وما يزيد عن 100 زجاجة محلول، كل ذلك في سبيل إنقاذ حياة مهجة قلبه.
دخل ساري العناية المركزة نظرًا لسوء حالته، وهنا بدأت المعاناة الحقيقية بحيث كان برفقته خمسة آخرين من السهل عليهم الذهاب لـ "مقبرة الشهداء" شرق مدينة غزة نتيجة وضعهم الصحي السيء فحالتهم كانت ميؤوس منها، الأمر الذي زاد من تأزم وضع الدكتور داوود.
ويؤكد الشوبكي، مستمدًا كل طاقته في الحديث: "أنقذت حياة ابني مرتين رغم اعتقاد الأطباء بأنه انقطع الأمل في أن يعيش من جديد لكن مشيئة الله أقوى من أية ظروف صعبة".
في ذاك الوقت.. ناشد والد ساري كافة المسؤولين بتوفير العلاج اللازم أو اتاحة فرصة العلاج في الخارج، ومن بعدها أُقرّ تحويل ساري لمستشفى " مار يوسف" بالقدس المحتلة ، لتُفتح بوابة أمل جديدة في وجه والده.
الفصل الأخير
وتابع والد الشهيد: "تجهزت أنا وساري للسفر للقدس بتاريخ25/ مايو وهنا بدأت كارثة جديدة تطفو على السطح فقبل وصول معبر بيت حانون/ إيرز شمال القطاع، استنفذنا أنبوبة الأكسجين الخاصة بساري لكن بحمد الله تلافينا هذه المشكلة وأسعفنا الهلال الأحمر ووفر لنا ما يلزم".
وأضاف الشوبكي والدموع تنهمر من عينيه وأوداجه منتفخة من شدة القهر والألم: "خلصنا من التفتيش في الجانب الإسرائيلي واطلعنا بالإسعاف وتوجهنا للمشفى بالقدس لاستكمال العلاج اللازم إلا أنها كانت المحطة النهائية التي يحط فيها ولدي رحاله، فهناك في الشق المحتل من الوطن قد استشهد من كان يعني لي الحياة".
واختتم والد الشهيد حديثه بالقول: "من 25آيار/ مايو لحظة إصابة ولدي لغاية 17تموز/ يوليو لحظة استشهاده أسميت عنوان تلك المرحلة (عندما تسرق منك الابتسامة ويداهمك الخطر)، واصفًا تلك المرحلة بأصعب أيام حياته على الإطلاق.