على طول الشارع، ومن كافة الجوانب المؤديّة إلى دوّار المنارة، كانت تقف سيّارات سوداء رباعيّة الدفع يمتلئ داخلها، كما فوق سقفها، بعناصر أمنيّة ببزّات سوداء. تستقبل العناصر الملثّمة، برشاشات آليّة نُصبت فوق المركبات، المتظاهرين الوافدين إلى موقع انطلاق المظاهرة وسط رام الله. أما دوّار المنارة ذاته، وهو مركز المدينة المعروف بتماثيل "الأسود الأربعة" التي ترمز لعائلات رام الله الأصليّة، فقلة من المتظاهرين فقط استطاعت رؤيته بسبب تكاثف عناصر "الأمن الوطنيّ" حوله ببزّاتهم الخضراء. على مخارج الدوّار الأربعة وقفت صفوف من عناصر القوّة الخاصّة، ملثمي الوجوه، حاملي الهراوات السوداء والسواتر، لمنع دخول المتظاهرين إلى منطقة الدوّار. وفي الوقت الذي حاولت فيه بعض الشخصيّات الفلسطينيّة مُناقشة الضابط المسؤول لإيجاد طريقة تتم فيها المظاهرة دون فضٍ عنيف، خرج صف آخر من خلف سواتر الوحدة الخاصّة بهراوات وبنادق لإطلاق الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت. عند أوّل هتاف "بالروح بالدم نفديك يا غزّة"، أطلقت أوّل قنبلة صوت. ومن بعدها انهالت قنابل الغاز والصوت من كل الاتجاهات. لاحقت العناصرة الملثّمة بالأسود المتظاهرين لتقبض على كلّ من تصله، فيُضرب على الرأس ويُنقل تحت الضرب إلى موقف سيّارات خلفيّ تتجمّع فيه سيارات نقل المعتقلين حيث يستمر الضرب حتّى وصول معتقل آخر. كانت خطواتهم جاهزة واحدةً تلو الأخرى، تظهر تدريجياً ومباغتةً بعد فشل سابقتها. وبعد أن تكرّر هذا المشهد أربع مرّات متتاليّة، تدخّلت قوّات جديدة: شبّان مدنيّون يعتمرون قبّعات "فتح"، يحاولون الدخول بين المُتظاهرين لاعتقالهم.
تاريخياً وفي السياق الفلسطينيّ، شكّل اللثام دلالة للتنظيم السياسيّ والانتماء الأيديولوجيّ. فاللثام بالحطّة الحمراء مثّل فصائل اليسار، واللثام بالأخضر مثّل التيّار الإسلاميّ السياسيّ، واللثام بالكوفيّة البيضاء والسوداء مثّل "فتح". أمّا في هذه الموقعة، فإن اللثام الأسود، كما قبّعات حركة فتح البيضاء والسوداء لم تكن تمثّل سوى المرحلة التي يخجل فيها الفلسطينيّ، وربما يخاف، ليس من الاعتقال أو الاغتيال، بل من أن يُبرز وجهه أمام أبناء شعبه. يُستبدل اللثام الذي حوّله الفلسطينيّ، ثقافياً وسياسياً، إلى أيقونة نضاليّة، ويُصبح أسود قاتلاً، لا يحمل الملثّم به زهرة يهديها لطفلة في شوارع القدس، بل هراوة سوداء تنزل على رؤوس الأطفال والشبّان وتصوّب قنبلة غاز مسيل للدموع نحو أقدام فنان.
عندما تساوى "إسقاط العقوبات" مع "إسقاط النظام"
أعلنت حملة "ارفعوا العقوبات" التي انطلقت من الضفّة الغربيّة أهدافها الأساسيّة في بيانها الأول: إسقاط جميع العقوبات المفروضة على أبناء شعبنا في قطاع غزّة بشكل فوريّ، وحدة المصير السياسيّ بين الضفّة وغزّة والأراضيّ المحتلة عام 1948 والشتات، والوحدة الوطنيّة على أساس كفاحيّ مناهض للاستعمار، وعدم تدفيع الشعب الفلسطينيّ والقضيّة الفلسطينيّة ثمن الاستقطاب السياسيّ. وعرّفت الحملة عن ذاتها على أنّها حراك "شعبيّ مستقل من الشعب الفلسطينيّ إلى الشعب الفلسطينيّ، ليس جزءاً من أحد وليس حكراً على أحد، يهدف إلى حشد طاقات الشعب الفلسطينيّ، في كُل مكان، بهدف إسقاط جميع العقوبات المفروضة من قبل السُلطة الفلسطينيّة على أبناء شعبنا في قطاع غزّة بشكل كامل وفوريّ. كما أنّه حراك غير مناطقيّ وفوق - فصائليّ، يؤمن بالمصير السياسي المشترك لجميع أطياف وفئات وتجمّعات الشعب الفلسطينيّ في كُل مكان...".
وعلى الرغم من هذا، كتب مُحافظ نابلس الآتي: "عندما يكون هدف الحراك هو رأس الشرعيّة الفلسطينيّة والنظام السياسيّ، فالمُحافظ ليس محايداً وليس صليب أحمر"، وذلك تعقيباً على تصوير مسجّل له يحرّض فيه على الحراك الشعبي والمؤسسات الأهليّة الداعمة له باعتبارهم يحملون "أجندات خارجيّة" تهدف إلى زعزعة الشرعيّة والاستقرار السياسيّ في الضفّة الغربيّة.. متجاهلًا أن حملة "ارفعوا العقوبات" لم تنادِ نهائياً بإسقاط النظام السياسيّ أو المس برأس هذا النظام. وهي أعلنت في بياناتها وشدّدت على أن هدفها النهائيّ هو "إسقاط العقوبات المفروضة على أبناء شعبنا في غزّة". تصريحات المحافظ تلتقيّ بصورة مُباشرة مع الاتهامات والشتائم التي وجّهتها الأجهزة الأمنيّة، باللباس المدنيّ والعسكريّ، للشبّان الذين سحلتهم وضربتهم واعتقلتهم في شوارع رام الله. إن هذه الرواية الموحّدة لأجهزة السُلطة في الضفّة الغربيّة تدلّ على كيفيّة فهم السُلطة داخلياً للحراك، ومن أي الزوايا تحرّض عناصرها ومؤيّديها ضدّه. ثم الأهم، مدى جاهزيّتها للذهاب بعيداً في الدفاع عن عقوباتها المفروضة على قطاع غزّة. حيث تربطها وتساوي بينها وبين إسقاط النظام برمّته.
مطلب رفع العقوبات عن غزة يوصيّ به أعضاء في مركزيّة "فتح"، وأوصى به "المجلس الوطنيّ" بالإضافة إلى "المجلس المركزيّ" وتتبنّاه كافة الفصائل الفلسطينيّة (باستثناء "فتح" رسمياً). ولذلك شارك في المُظاهرة الأولى والثانيّة (على الرغم من القمع) فصائل فلسطينيّة وشخصيّات مستقلة، وشخصيّات من "فتح" ذاتها، ونال مساندة من مؤسسات حقوقيّة ومحامون ومن فلسطينيّون في الأراضيّ المحتلة عام 1948..
حول سحب الشرعيّة عن سلطة أوسلو
تنقسم السيادة في الضفّة الغربيّة إلى اثنتين: سيادة عامّة على الأرض والجو والبحر، وهي إسرائيليّة. وسيادة إداريّة داخليّة فلسطينيّة على الشعب الفلسطينيّ. وتتفاعل السيادتان بغاية التكامل: تُريد إسرائيل تعزيز السيادة الفلسطينيّة الداخليّة، بشرط أن تحفظ هذه السيادة الفلسطينيّة الأمن الإسرائيليّ. أي أن وجود السيادة الفلسطينيّة مشروط بقدرتها على حفظ الأمن الإسرائيليّ. ويتطلّب هذا الشرط تخفيف ظهور السيادة الإسرائيليّة في مناطق السُلطة الفلسطينيّة، وهو تخفيف مرهون أولاً وأخيراً بالنشاط الأمنيّ الذي تقوم به السُلطة لحماية الأمن الإسرائيليّ. عبّر رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال، غادي آيزنكوت، عن هذه العلاقة علناً حين فسّر تخفيف نشاط قوّات الاحتلال في مناطق (أ) التي تسيطر عليها أمنياً وإدارياً السلطة الفلسطينيّة، قائلاً: "نخفّف من وتيرة نشاط القوّة الإسرائيليّة في المُحافظات الفلسطينيّة الكبيرة منعاً للاشتباك الشعبيّ، وفي حال لم تقم السُلطة بدورها في حفظ الأمن الإسرائيلي، فإنّنا حينها سنتدخّل دون أن نطلب الإذن من أحد". هناك إذاً تبادل وظيفيّ ما بين السُلطة الفلسطينيّة والاستعمار، ومع تمكّن السطوة الأمنيّة للسُلطة يخفّ ظهور السطوة الإسرائيليّة. أما النتيجة فهي ذاتها: تأمين المستعمَرة الصهيونيّة. تبحث السلطة عن البقاء من خلال تأمين إسرائيل، أما الأمن الذي تبحث عنه إسرائيل فيبقى منقوصاً طالما لا تزال غزّة خارج المعادلة.
من النقب إلى الجليل.. كيف صُنع الصمت؟
مع مرور الوقت، بدأت إسرائيل تستكمل إلى حد بعيد مشروعها الأمنيّ في الضفّة الغربيّة، أي إقامة نظام إداريّ أمنيّ يستطيع السيطرة على الفلسطينيين وضمان الهدوء للدولة الصهيونيّة. يبدأ الاستعمار في تعميم النموذج في كلّ مرة يحقّق من خلالها هدفاً، لذلك تسعى إسرائيل الآن إلى تعميم نموذج الضفّة الغربيّة في غزّة. وهذا ما بدأت تطرحه مؤخراً مراكز الأبحاث الإسرائيليّة وبعض رؤوس المؤسسة الأمنيّة من جنرالات مثل عاموس يدلين (الذي شغل منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيلية)، إجابةً على سؤال "كيف نسيطر على غزّة؟".
إن لم تتمكّن السلطة الفلسطينيّة (أو منظّمة التحرير، أو "فتح"..) من السيطرة على غزّة، ستبحث إسرائيل عاجلاً أم آجلاً عن بديلٍ سياسيّ يضمن ضبط الحركة الأمنيّة في غزّة. وقد باتت بعض المؤسسات الإسرائيليّة، وفي مقدّمتها "مركز أبحاث الأمن القوميّ"، تُوصي ببناء علاقة تفاهم مع حماس إن استطاعت ضبط غزّة. ولعل الدليل الأكبر على هذا التوجّه يكمن في تحميل حماس مسؤوليّة أي قصفٍ من قطاع غزّة باتجاه إسرائيل، من خلال التصريحات ومن خلال الردّ الإسرائيليّ بالقصف الجويّ لمواقع حماس في غزّة. أي أن إسرائيل تحمّل حماس مسؤولية ضبط الحالة الأمنيّة في غزّة وثمن ذلك، وخاصةً مسؤوليّة ضبط حركة الجهاد الإسلاميّ.
هذا التوجّه الإسرائيليّ يُعدّ سحباً للبساط من تحت أقدام السلطة، خاصةً وأن شرعيّة هذه السلطة مُكتسبة بفعل اتفاقيّة أوسلو وبالقبول الإسرائيليّ لها: الاعتراف الدوليّ بالسلطة، التبادل الاقتصاديّ مع الاستعمار، أموال المساعدات والمؤسسات الأجنبيّة، والأهم اعتبارها التيّار "المُعتدل والحضاريّ والعلمانيّ" بالمقارنة مع "حماس" التي تمثل الإسلام السياسيّ المتطرّف. في اللحظة التي تبدأ فيها إسرائيل البحث عن اتفاقيّة تعاون أولى، وإن لم تكن معلنةً، مع حماس باعتبارها صاحبة السيادة الأمنيّة في غزّة، تتخلخل أسس الشرعيّة هذه. من هذا المنظور يُمكن فهم العقوبات التي تفرضها السلطة على غزّة، والتمسّك بها بشراسة حتّى لو كلّف ذلك تدخّل "زعران" بلباس مدنيّ لسحل المتظاهرين في شوارع رام الله.
كيف تُدافع غزّة عن فلسطين؟
على الرغم من أن المسمّاة "صفقة القرن" لم تتضح معالمها النهائيّة بعد، إلّا أن التسريبات الكثيرة وتحليل الظروف المادّية في فلسطين تشير إلى أن المُستهدف من "صفقة القرن" بصورة مباشرة هو الضفّة الغربيّة والقدس. ذلك أن إسرائيل تُعلن السيادة بعد أن تُحكم السيطرة على الأرض وتستوطن وتضع البنى التحتيّة الماديّة والاجتماعيّة والمعرفيّة والسياسيّة في المناطق المنويّ ضمّها إلى سيادة المُستعمِر والبقاء فيها. يُضاف إلى ذلك ما يُسمى "الضم الزاحف"، أي القوانين الإسرائيليّة والسعيّ التدريجيّ المُستمر لفرض سيادة القانون الإسرائيليّ على الضفّة الغربيّة، حتّى وإن تمَ تقديم هذه القوانين بدايةً على أنّها مُعدّة للتطبيق داخل المستوطنات فقط. وكذلك إعلان أمريكا للقدس عاصمة إسرائيل، بالإضافة إلى وجود إجماع صهيونيّ على رفض تقسيمها، ورفض الانسحاب من الضفّة الغربيّة. ويلتقيّ هذا بالطبع مع تصريح وزير التربيّة والتعليم الإسرائيليّ، وزعيم حزب "البيت اليهوديّ"، نفتاليّ بينيت، حين قال "لدى الفلسطينيّون دولتان الأولى في غزّة والثانيّة في الأردن".
هذا الجانب الأول من الصفقة. أمّا الجانب الثانيّ فيتطرّق إلى بناء حلف "سنّي معتدل ــ إسرائيلي ــ أمريكي" في مواجهة "المد الإيراني" في الإقليم. لتحقيق مثل هكذا تحالف، هناك حاجة أولاً وقبل كل شيء إلى "حل" القضيّة الفلسطينيّة وتفكيكها: على مستوى النخبة السياسيّة، وشعبياً على المستوى الاجتماعي والمفاهيمي. لهذا، فمن الأساسيّ فهم دور الحالة الغزيّة في صد هذا المشروع. الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في غزّة التي لا تزال تعيش حتّى الآن خارج منظومة الضبط الإسرائيليّة على صعيد شعبيّ وعلى صعيد النظام السياسيّ ــ الاجتماعيّ الذي يستند إلى المقاومة الشعبيّة كما برز في مسيرات العودة، كما يستند إلى المقاومة المسلّحة التي برزت خلال العدوان الإسرائيليّ العسكريّ على القطاع. إن بقاء غزّة في حالة الصراع الشامل مع إسرائيل يبقيّ على القضيّة الفلسطينيّة حيّة في أذهان العالم العربي شعبيا، ويصعّب على الأنظمة التوجّه إلى بناء حلف مع إسرائيل. كذلك فإن أي اتفاقيّة أو أي مفاوضات سياسيّة مشكوك في قدرتها على ضبط غزّة، يجعلها في نهاية المطاف غير مُجدية لإسرائيل التي تبحث عن "الأمن" قبل كل شيء.
وسط هذا كلّه، انتفضت غزّة تحت عنوان العودة. والعودة هي الفعل السياسيّ الذي يناقض جميع ما ورد من سيناريوهات ومخطّطات تهدف إلى تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة. لا تزال العودة القيمة الأكثر توحيداً وجذريةً بالنسبة للفلسطينيين، بغض النظر عن مكانهم الجغرافيّ، موقعهم السياسيّ وخلفيّتهم الأيديولوجيّة. بالتاليّ فإن العودة تضمن الوحدة كنقيض للتفكّك والشرذمة. ثانياً، لا تزال العودة هدفاً لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال النضال والسعي لتفكيك جوهر إسرائيل الصهيونيّ العنصريّ وتفكيك الحصريّة اليهوديّة في حكم أرض فلسطين. من هذا المنطلق، تبرز المسيرات الأخيرة في غزّة على أنّها مدخلاً يُمكن البناء والعمل من خلاله وتعميمه كنموذج يُمكنه أن يقود الفلسطينيين من حالة التفكّك السياسي إلى نهوض جديد من وسط رماد المرحلة.
المصدر: السفير العربي