منذ فترة قصيرة بدأت قراءة ما أنتجته الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور في كتاب "أثقل من رضوى" والتي لخصت فيها مقاطع من سيرتها الذاتية، ومن جانب فكري طغت أحداث الثورة المصرية بتفاصيلها على سرد رضوى، تفاصيل كانت مذهلة لم نشاهدها على الاعلام رغم متابعتنا الحثيثة للثورات العربية آنذاك، لأن ثمّة ما لا يمكن أن يُقال أو ثمّة خفايا تظل حبيسة من عاشها يعجز عن وصفها، ولا يستطيع ادراك عمقها من عرفها عبر الاعلام.
انقطاع بسيط تخلل قراءتي لسيرة رضوى لانشغالي بأبحاث برنامج الماجستير، ولكن كان من المفيد جداً هذا الانقطاع، فبينما كنتُ اتساءل في داخلي عن حجم ما وصفته رضوى من قمع تعرض له الشباب المصري خلال الثورة على يد الجيش المصري، كانت اسئلتي متصارعة معي "بأي قلب يظلم الأخ أخاه؟ بأي عقل يسحل عنصر الأمن فتاة الشعب؟ بأي ضمير يرفع الفتى المدسوس من عناصر الأمن يده على مَن هو بعمر والده وجده؟ بأي منطق يعتقل ويعذب مَن لا يجيد القراءة والكتابة فقهاء وفلاسفة ومثقفي الشعب؟" صورة غير مركبة أو بالأحرى يرفض العقل تركيبها، لم استطع تقبلها أو حتى تحليلها، ربما لأن شيئاً ما في الانسان العربي يظلّ يلحّ عليه أن العرب فيهم طبائع الشهامة لا النذالة، وأن بعض التصرفات ليست بالضرورة تعتبر ظاهرة عامة، وما أن عدتُ لسيرة رضوى حتى صادف ذلك ما شاهدته في رام الله عندما قمعت الأجهزة الأمنية بكل عناصرها ومدسوسيها، شبان مختلفين الانتماءات السياسية والفكرية والدينية، خرجوا مطالبين السلطة ورئيسها محمود عباس وقف العقوبات الظالمة ضد قطاع غزة، حتى أيقنتُ أن رضوى في وصفها لما حدث لم تستطع قول كل ما رأته لأن شيئاً في نفس المكلوم من هذه الأحوال يظلّ عالقاً ما بين الحسرة والخجل، كيف ومتى ولماذا وصلنا الى هذا الحال ؟!
كنتُ أتساءل كيف لضباط في مصر أسموا ثورتهم قديماً "الضباط الأحرار" يقدمون على سحل فتاة اسمها هند ذاعت قصتها خلال الثورة المصرية، حتى جاءني الجواب من ضباط رام الله عندما ضربوا الفتيات وسحلوهنّ، ولا أدري إن كانت مصر سجلت هند واحدة، فما حدث في رام الله سجل هند عشرات المرات، كنتُ أتساءل كيف يُقدم فتى جاهل على اعتقال أدباء ومثقفي الشعب، حتى جاءني الرد على سؤالي عندما قام عناصر الأجهزة الأمنية بلباس مدني وبأعمار لا تتجاوز الـ 20 عاماً، باعتقال دكتور الهندسة في جامعة بيرزيت سامح عواد، الرجل الذي يدافع عن حق المظلوم ويمد يد العون للجميع، كنتُ اشتاط غضباً من انعدام الحماية للصحفيين خلال عملهم ويتلفظ عناصر الامن بكلمات نابية لقاء الصحفيات خلال تغطيتهن أحداث ميدان التحرير في مصر، حتى رأيت المشهد ماثلاً أمامي عندما اعترض عناصر الاجهزة الامنية عمل الصحفيين والصحفيات وضرب من ضرب واعتقل من اعتقل وصادر أجهزة البعض، وفي مطلع ردهم على تعريف أحد الصحفيين بمهنته "أنا صحفي"حتى قيل له "صحفي في دارك"، إذاً فلتكن عنصر أمن في دارك أنتَ أيضاً لا نريدكَ في شوارعنا، فلا أمان منك إنما خوف، فما أثقل فعلهم يا رام الله، ما أثقلك يا رام الله !.
كل الذين غادروا ساحة المنارة يوم الاربعاء المنصرم "يوم واقعة القمع"، غادروها مثقلي الفكر، تتملكهم الحيرة والحسرة، مَن خرج لأجل غزة عاد باكياً على ما شاهده من ممارسات لم يكن يتوقعها من الاجهزة الامنية التي ناورت بضربها لقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع، وأطلقت الرصاص الحي في الهواء، واعتقلت مَن وقع في قبضتها، فيما عاد مَن مارس فعل القمع يشعر بحسرة على عدم بذله جهداً أكبر من الذي جرى ويقول لنفسه "كان عليّ أن أقتل أحدهم" ربما لو قُتل متظاهراً لحصل القاتل على رتبة لواء أو عقيد أو ضابط، ولكنهم لا يدركون أن كل هذه المسميات منطقياً لا تدلل الا على عبيد باعوا أنفسهم وضمائرهم ووطنيتهم لقاء مال رخيص.
وكأي مواطن اتساءل، ماذا لو اقتحم الاحتلال رام الله في تلك الواقعة! هل سيبقى رجال الأمن على حالهم؟ بالتأكيد لا، لأن الاتفاقيات الموقعة بين السلطة والاحتلال تطالبهم بالانبطاح أرضاً مع القاء البنادق على الارض وعدم النظر تجاه جندي في جيش الاحتلال!.
بالمناسبة، مخيم الأمعري لا يبعد عن دوار المنارة الا بضع مترات، أين كان عناصر الامن الذين خرجوا بأعداد كبيرة لقمع مسيرة حراك الضفة، من اقتحام جيش الاحتلال لمنزل السيدة لطيفة أبو حميد والدة شهيد و6 أسرى، ويهددها الاحتلال بهم منزلها للمرة الثالثة على التوالي ! والأقرب من الأمعري الشارع الذي ارتقى فيه الشهيد باسل الأعرج وسط رام الله العام المنصرم، أين كان عناصر الأمن من حصار باسل ومقاومته وحيداً حتى الاغتيال !
مَن يعتقد جازماً أن حراك الضفة لأجل غزة له اجندات خارجية، فليراجع فلسفته في الحياة، وليتثقف في معنى الحراك والاجندات والسياسة والنظام السياسي، والعقوبات على شعب محاصر، فليراجع وطنيته أمام مشاهد الضرب والقمع التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأدعوكم الى مشاهدة مقطع أردجت فيه قصيدة "يا حيف" وآخر مع قصيدة "في وجه من ترفع سلاحك" هذه المقاطع والكلمات ربما تكون خير شفاء لضمير مات ولوطنية مباعة ولأمن لا يمارس الأمن، ولنظام سياسي لا سيادة له على أرضه !
ما لكِ رضوى كيف جعلتي الصراع الفكري تترجمه كلماتك لتنذرينا بواقع سنحياه رغماً عنا، واقع فيه انظمتنا العربية كلها أنظمة قمعية رجعية لا معنى حقيقي لوجودها، سلامُ عليكِ رضوى رحلتِ بسلام ونحن اليوم نكمل بعدك كتابة المشاهد المؤلمة وإن اختلفت الجغرافيا من القاهرة الى رام الله، وإن اختلفت المسميات من نظام مبارك الى نظام عباس، فالمضمون واحد.