(هذه القصيدة ليست بالمطلق رثاء، والغرض منها ليست بالمطلق حماسي فحسب، بل هي بيان سياسي لجيلٍ، نابع من حيرة السؤال الذي وجد نفسه فيه، من خلال قصة أحد أبنائه، رسم بدمه ما يمكن أن يكون بداية طريق إلى إجابة ما)
ليل وضوء يرتجف
بنافذة يتيمة
كخاتمة مفقودة لأغنية قدمية
وصوت شهيق باسل
عبق الدخان بغرفة
ومخزنين من الذخيرة
يسامران "غرامشي" وطاولة كسيرة
وعينا مدينة تغمضان
على عبث مسموم في بذخ السلاسل
وصوت زفير باسل
بعيدة باتت تلك البداية
لطفل ينظر عبر سياج في الولجة
صدأ الأسلاك يقسم منذ دهر أنه خط النهاية
ماذا ورثنا، أيا جيل الملاحم القديمة؟
أيا تعب الأحلام من السفر الأزلي
إلى الذكرى الأليمة
ماذا ورثنا؟ غير حطام أساطير معتقة
وهزيمة؟
بعيدة باتت تلك البداية
وخط النار يحفر إرثه في عظامي
يقسم أنه قدري
وأنه خط النهاية
عبق الدخان بغرفة يلف الذكريات
ويد تلقي نظارة جريحة
على ورقٍ كصدر مسيح مثخنٍ
بالكلمات
ليل يجرّ صمته المتكاسل...
وصوتُ شهيق باسل
كيف أرادوا لنا أن نترك الأمانة؟
وكيف كنا سوف لا نرى الإهانة؟
كيف نحمل كل رغيف من حسنات المانحين
في حقائبنا المدرسية
طيلة أعوام عشرين
يا باسلاً ولا نشم في ورق الدفاتر،
وفي صفحات منهاج التاريخ
وفي المقالم والمساطر
رائحة المذلة من ثمن الخيانة؟
كيف أرادوا لنا أن نترك الأمانة؟
وقالوا: إن هذا أوسلو، وهذا جيله!
وجرح يكبر فينا كلما كتموه
وكلما أطفأوا عليه نوراً
كان يتضح سبيله
كعصفور لتوه تعلم الطيران
كرجع الصوت في الوديان تسبقه مواويله
إلى مغارة ثائرٍ منسية في الخلا
يمد بها العصفور تأمله ويطيله
على ثقوب بدلةٍ عسكريةٍ
غبار الدهر عنها بلهفته يزيله
ثقوب النار تقول للعصفور: اقرأ!
فتعلو منه نغمة يجددها ترتيله
وتبدّل التاريخ في تغريده
تحت غبار الدهر للتاريخ بديله
وترى التاريخ شيخاً على باب المغارة
يرى في البدلة المثقوبة وجهه الأصيل
وأسماء كورود قد نبتت عليها
ويرى العصفور ينادي على أخيه، يشير إليها
فينادي آخراً ثم آخر حتى يبزغ في التلال
جيل من عصافير تجوب في الجبال
تبحث تحت حجارة الأجداد عن حكايا
وعن حروف قمح وزيتون وهال
تخيط منها بدلةَ جيشية من فجر
ومن أغانٍ ومن حب ومن خطى التجوال
عصافيرُ وقد كفرت بكل دروب الأمس
تنبش في النجوم درباً إلى الشمال
لتُرجع "نجم سهيل" إلى عليائه
تشير إليه، ثم تقول لطفل تائهٍ "تعال!"
جيل دون اسمٍ منذ أن تعمّد
في محبرة "غسان" وعينيّ "دلال"
فراح يسعى في القرى يفتش عن اسمه
في تلوم الحواكير وأحجار السناسل
وفي كتب مصفرة بمكتبة عتيقة
تقلبها اناملُ ... وصوت شهيق باسل
ضوء وحيد بالنافذة يرتجف
وصمت الليل إلى الجحور ينسحبُ
عبق الدخان يكتب خاتمة جديدة
وقرع طبول الموت منها يقتربُ
صوت ينادي "قد ركز بين اثنتين!"
وسماء مدينة نائمة تضطربُ
وتجتمع بغرفةٍ "القسطل" و"يعبدٍ"
وفوق سطور "غرامشي" فوارغ تنسكبُ
وكان مساء وكان صباح
وكان صوت باسل يدوي في المدى
"لقد وجدت أجوبتي فجدوا أنتم جوابا"
"يوم وليد هذا فشرّعوا الأبوابا""
وكان الوجد ينبت كالزهر في العيون
وتنبت ألف قصيدة بأزقة عتيقة
وعلى خشبات دروج مدرسية
وعلى خدودٍ دامعةٍ تحولها لموسيقة
على سقوف "زينكو" في ظلمة الحصار
وعلى فؤوس في الحقول وفي وجع المحاجر
أبيات نشيد يولد من نار وزهور
كنوارٍ يتفتّح بآلاف الحناجر
يحكي عن الحب الذي يعمّد بالدماء
وعن الكرامة التي لا تشترى بالمتاجر
كان صوت باسل ينادي على الفلاح
يقرع كل جدار ويعلن الميعاد
ينادي: هاكم الحقول إنها تتفجر ...
وقد حان الحصاد!