لا الحصار، ولا البطالة، ولا الحروب، ولا حتّى الحدود ومنع حريّة الحركة ما تبنّته غزّة كخطاب سياسيّ، يوم توجّهت إلى السياج الذي يفصلها عن باقي فلسطين التاريخيّة في ذكرى يوم الأرض. وليس اعتباطًا، عدم تحرّك أهالي غزة إلى البحر أو مصر، ليركبوا قوارب الموت المخصّصة لعصرنا ومنطقتنا ولكل من يريد من سكّانها أن ينجو من القتل والدمار نحو اللجوء. فباختيارها «العودة» منحت غزّة، لفلسطين، في هذه المسيرة التي انطلقت ولم تنته بعد، البُعد الأهم: فلسطين، كُل فلسطين. وعلى الرغم من حقيقة أن الرسائل التي خرجت من غزّة في هذه المسيرة كثيرة ومتعدّدة وجميعها تدلّل على وعي تاريخيّ، ومسؤوليّة، إلّا أن هذه القيمة الجوهريّة في المسيرة، أي العودة، هي الأساس الذي رفع المسيرة وفكرتها فوق شريط الحصار، والمياه الدوليّة، والجدار والدول السياديّة المُحيطة، وبالموازاة، ارتقى بهذا الحدث السياسيّ فوق كُل الخطابات بشقّيها: الأيديولوجيّ، والمناطقيّ.
ومن هذا المبدأ، يعمل المقال على قراءة الحدث الذي لم ينته بعد في غزّة، بصورة تاريخيّة موضوعيّة: موقع الحدث من الحالة السياسيّة الفلسطينيّة الناتجة عن تراكم التجربة والفعل السياسيّ، موقع الحدث من الظرف الفلسطينيّ الراهن، وموقع الحدث من الصراع مع الصهيونيّة.
العودة: بين كابوس الصهيونيّة وحلم الرواية الفلسطينيّة
يتعزّز تماسك الرواية والمؤسّسة والوجود الصهيونيّ على حساب تفكيك الرواية والمؤسسة والوجود الفلسطينيّ. هذه حقيقة، فالصهيونيّة لتَبني عليها أن تهدم، ولتُوطّن عليها أن تهجّر، ولتسيطر عليها أن تُصادر. وهو ذات المنطق عندما نتحدّث عن الرواية، فلتشرعن الصهيونيّة روايتها الاستعماريّة يتوجّب عليها بالضرورة سحب الشرعيّة والمصداقيّة عن الرواية الفلسطينيّة، التحرّرية. واللجوءُ، كفكرةٍ وخطاب سياسيّ، يشكّل أساس الرواية الفلسطينيّة. هذا في الوقت الذي يشكّل «نفي المنفى» أي «العودة ولم شمل اليهود من كل بقاع العالم» أساس الرواية الصهيونيّة والنجاح الأكبر لها. وهنا تحديدًا يولدُ التناقض الذي رفعته المسيرة التي انطلقت من غزّة في «يوم الأرض» مع الصهيونيّة من حيث الرواية، فالخطاب على صعيد القضيّة، معرفةً وروايةً، يشكّل بحد ذاته نواة التحدّي الأولى التي ترفعها المسيرة ليس فقط لإسرائيل الدولة والجيش والمستوطنين، بل لشرعيّة المشروع الذي انبثقت عنه إسرائيل برمّته. ومن هذا التحليل يمكن فهم السلوك الذي اتّبعته النخب السياسيّة والصحف الصهيونيّة في خطابها الموجّه إلى الرأي العام الداخليّ: مشاكل البطالة، قمع «حماس»، حريّة الحركة، محدوديّة التحرّك، الحصار… وغيرها من التفسيرات التي تتشارك كلها بأمر واحد: عدم تناول العودة المطروحة في المسيرة كأزمة تهدّد المجتمع.
نحن أمام حدث مُختلف عن السائد، يتمتّع ببيئة خصبة ونواة يمكن البناء عليها لإحداث تغيير في المشهد.
هذا من ناحية المستعمِر، حساباته والصراع الدائر بينه وبين الفلسطينيّ. ولكن للعودة قيمة أخرى داخليّة تُشتق من التاريخ السياسيّ الفلسطينيّ. وبكلمات أخرى أكثر تفصيل ودقّة: يؤمن كُل من الشيوعيّ، والإسلاميّ، والعلمانيّ، والاشتراكيّ، والليبراليّ بحق العودة ولا يُعارضه. أمّا حق العودة ذاته، فإنه وبالموازاة يتسع لكافة التناقضات الفلسطينيّة الأيديولوجيّة وحتّى المناطقيّة، فاللجوء في كل مكان: لاجئون في غزّة، وفي الضفّة، وداخل الأراضيّ المحتلة عام 1948، وحتّى في الأردن ولبنان. ومن هنا، تطرح المسيرة سؤال اللجوء ليس كقيمة هويّاتيّة فلسطينيّة وتراثيّة فقط، بل إنّها في اللحظة التي سارت فيها تحت سقفه، رفعته معها من كونه قيمة ثقافيّة إلى مستوى الفعل السياسيّ؛ أي البرنامج السياسيّ. وفي حال إضافة هذا العامل إلى حقيقة أن تنظيم المسيرة عابر للفصائل والأحزاب والألوان، وهو ما يجعل منها مساحة خصبة للمواهب والإبداع والسياسة، فإنّنا نصبح أمام حدث مُختلف عن السائد، يتمتّع ببيئة خصبة ونواة يمكن البناء عليها لإحداث تغيير في المشهد إن تطوّر هذا الحدث.
يوم سقوط ادّعاءات المرحلة
منذ أكثر من 10 أعوام، والتناقض الأساسيّ، على مستوى الادّعاء، بين النخب السياسيّة المنقسمة فلسطينيًا، ولاحقًا في أوساط الشباب والقاعدة: مقاومة مسلّحة، أم مقاومة شعبيّة سلميّة. ولعلّي لا أبالغ حين أقول أن هذا السؤال هو السؤال الأكثر تداولًا في الشارع الفلسطينيّ، طبعًا بعد سؤال «دولة» أو «دولتان». وهذا السؤال، لا يظهر على مستوى تبادل الاتّهامات في الإعلام فقط، بل ويمتد إلى كُل ندوة وكُل حوار رسميّ أو غير رسميّ، حتّى وصل في الآونة الأخيرة إلى كونه «سؤال الانقسام» أو بكلمات أخرى: الإجابة التي من شأنها أن تحل وتفكّك منظومة الانقسام السياسيّ في فلسطين. هذا السؤال، الذي بات يُطرح على أنّه وصفة التعجيز السياسيّ في فلسطين، حُل خلال المسيرة في غزّة. بل وأبعد من ذلك، بات نوعا المقاومة المختلف عليهما، في حالة من التكامل الرهيب الذي يدعو إلى إعادة النظر في جميع الادّعاءات التي تشكّل الذرائع السياسيّة لاستمرار الانقسام. فالمسيرة ليست المسيرة السلميّة الأولى التي تخرج في فلسطين، ومع هذا أربكت أجهزة أمن الاحتلال بهذا الشكل الذي دفعها إلى استعمال وسائل مكافحة تمرّد جديدة كطائرات تحمل قنابل غاز مسيل للدموع. وهي أيضًا، من حيث العدد ليست المسيرة السلميّة الأكبر التي خرجت في فلسطين، ومع هذا غيّبت عنها كافة وسائل مكافحة التمرّد التقليديّة في فلسطين من خيول وشرطة حرس حدود، حتّى المركبات المعدّة للاعتقال، مرورًا بالهراوات التي لم تُر، وجيّد أنّها لم تُر.
قد تكون دعوة غزّة هذه، الدعوة الأخيرة قبل اليأس، كما هي الدعوة الأخيرة قبل الانهيار الإنسانيّ الذي يجعل من الخلاص الفرديّ، حلًا واقعيًّا وخيارًا مطروحًا.
إن ما جعل من المسيرة الشعبيّة السلميّة استثنائيّة بالنسبة للمسيرات السلميّة الأخرى، ليس المسيرة ذاتها ولا هو أي عامل من العوامل الذاتيّة للنشاط السياسيّ، بل هو النقيض على مستوى الادّعاء الذي تبثّه فصائل الانقسام عبر وسائل إعلامها ومتحدّثيها الرسميين: المقاومة المسلحة. فالمقاومة المسلّحة استطاعت خلق نوع من أنواع الردع البرّي في غزّة، ما يجعل إسرائيل في كُل مرّة تفكّر في سيناريو الدخول البرّي إلى غزّة كأحد السيناريوهات الأقل شعبيّة، ولا تلجأ إليه إلّا بعد أيّام من القصف المدفعيّ والجوّي. وهذا تحديدًا، ما جعل أرض غزّة آمنة من كل وسائل مكافحة التمرّد الشعبيّ، وحصّن الفلسطينيّ داخل غزّة من تغلغل جنود الاحتلال وسط المظاهرة، وهو ذاته ما أنتج بالختام: مسيرة تنطلق كالسهم إلى خط الصفر حيث تقرّر هي متى تتوقّف، ومتى تتراجع، ومتى تتقدّم، دون أن يقدر الاحتلال على ملاحقة الجماهير إلى النقطة التي يريدها لينفّذ ما يُطلق عليه في الإعلام عادة «قوّات الاحتلال تقمع»، ولهذا تحديدًا لا يُقال قوّات الاحتلال قمعت النشاط في غزّة، بل نفذّت مجزرة في غزّة. وهنا تحديدًا أثبتت المسيرة أن وجود استراتيجيّة فلسطينيّة، متّفق عليها، من شأنّها أن توحّد الأدوات النضاليّة، وأن الأزمة ليست في الأداة واستخدامها، بل في عدم التوافق على استراتيجيّة استخدامها. ومن هنا يأتي الكابوس الإسرائيليّ: ليست المقاومة السلميّة وحدها، ولا الكفاح المسلّح وحده، بل الاستراتيجيّة التي تجمع كلاهما في ظرف ومكان محدّد.
محدوديّات الفرصة
السؤال الأهم، هو كيفيّة تحويل الحدث إلى منظومة، خاصة وأنّنا نكتب فيه وعنه، ولم ينته بعد، وهو ما يجعل من القراءة فيه ليست قراءة في تاريخ، بل قراءة في راهن يمكن التأثير عليه. والمسيرة التي انطلقت في غزّة، بالقدر الذي تعدّ فيه نقطة نوعيّة في مرحلة التحليل، إلّا أنها تتحوّل بسرعة إلى شعرة رفيعة يمكنها أن تتحوّل إلى خطر تصفويّ عند البدء بالاستشراف السياسيّ. فمن يستهدفها كُثر: أولًا، إسرائيل التي تسعى إلى قتلها أو إعادة إنتاج خطابها السياسيّ بحيث يعود إلى مربّع «حماس» المُريح لإسرائيل في الساحة الدوليّة أولًا عبر وصم الحركة بالإرهاب، وعبر تحويلها إلى حرب عسكريّة تتفوّق فيها إسرائيل من خلال الذرائع التي تسمح لها بإلقاء الأطنان من المتفجّرات على غزّة. ثانيًا، الفصائل الفلسطينيّة التي تسعى إلى احتواء المسيرة ومن ثم توظيفها في خطابها وانقسامها، وهذا ما حصل بعد يوم الجمعة الماضيّ إذ نشرت «حماس» صور الشهداء بالبزّات العسكريّة ونشرت «فتح» صور وأسماء الشهداء على اعتبار أنهم منها. ثالثًا، الخطاب المهيمن في فلسطين، إذ تَحمل المسيرة خطابًا مناقضًا للمناطقية والأيديولوجيّة والخصوصيّة، وفي مرحلة من المراحل ستصطدم المسيرة بهذا التقسيم، خاصة وأن الفصائل الحاملة لهذه التقسيمات تحاول احتواء المسيرة والنشاط.
في الحقيقة، هذه الأخطار موجودة عند كُل حدث سياسيّ فلسطينيّ جديد. إلّا أن ما يجعل هذه الأخطار استثنائيّة في هذه المسيرة، هي حقيقة الظرف الذي انطلقت منه والشرط الفلسطينيّ الآنيّ: في الوقت الذيّ تواجه فيه غزّة تحديدًا، عقوبات من الرئاسة الفلسطينيّة، ومشاريع سياسيّة تهدف إلى عزلها عن فلسطين التاريخيّة كمشروع دويلة غزّة في سيناء وحصار مصحوب بانقسام، خرجت عكس كل ذلك لتدفع باتجاه التوحيد من خلال الخطاب والذكرى، وبالتالي، يمكن فهم الخطوة باتّجاهين: أولهما إعلانٌ عن رفض كُل هذه المشاريع التي تهدف إلى عزل القطاع. وثانيهما دعوة للالتحاق بالحدث. ومن هنا تأتي الخطورة: إن بقيت غزّة وحيدة رغم الإعلان والدعوة، فإنها ستبقى وحيدة، وفي أصعب الظروف، ولهذا إسقاطات أعمق من عقوبات يفرضها الرئيس الفلسطينيّ الذي يُعد ممثّل أحد أطراف الانقسام السياسيّ، فالخذلان الشعبيّ أصعب بكثير وأعمق مجتمعيًا من الخذلان القياديّ، الذي اعتاد عليه الفلسطينيّون عبر التجربة طويلة الأمد في الصراع مع الصهيونيّة. وبكلمات أدق: قد تكون دعوة غزّة هذه، الدعوة الأخيرة قبل اليأس، كما هي الدعوة الأخيرة قبل الانهيار الإنسانيّ الذي يجعل من الخلاص الفرديّ، حلًا واقعيًّا وخيارًا مطروحًا. ولنستمعْ إلى ما تحذّر منه إسرائيل، باعتبارها الطرف الآخر من الصراع، إذ تقول: «إن قتَلنا الكثير في غزّة، فهذا من شأنه أن يُشعل الضفّة»، وهنا تكمن الخلاصة: التحاق الضفّة يشكّل التحدّي الأكبر أمام الصهيونيّة ومخطّطاتها.