غزة، ورغم كل ما تمر به من ضائقة ناتجة عن اشتداد الحصار، ستظل صاحبة المشروع الفعلي في مناجزة الاحتلال، عسكريًا وشعبيًا، لأن هناك إرادة صادقة ترفع راية المواجهة، وتعدّ نفسها وشعبها وأرضها لمتطلباتها باستمرار.
في حالة مخاتلة معتادة ومألوفة، حاولتْ أوساط إعلامية وسياسية في السلطة الفلسطينية الترويج لافتراض متهتك مفاده أن قطاع غزة معنوناً بحركة حماس سيكون الثغرة التي ستجعل مشروع صفقة القرن معطىً قائماً على أرض الواقع، ولكي يكتمل مشهد التضليل شرعت قيادتها في تصعيد غضبها الكلامي الموجه للإدارة الأمريكية، ورافقه تصعيد عملي آخر تجاه غزة، عبر خنقها بمزيد من العقوبات التي ضاعفت من مأساة أهلها وضيق حالهم.
على الأرض كان يبدو أنه لا أثر لذلك الغضب أو تلك اللهجة الحادة تجاه أمريكا راعية الصفقة، فالهدوء في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية (أي في الضفة الغربية) سيد الموقف، باستثناء طوفان التهديد بمزيد من الإجراءات العقابية الموجه لغزة، وباستثناء حملة اعتقالات نفذتها أجهزة السلطة بحق ناشطين في حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
على الجانب الآخر، كانت تجري في غزة استعدادات –بدأت قبل عدة أشهر- لمسيرة العودة الكبرى، وكانت حدودها تشهد مناوشات يومية مع الاحتلال بتفجير بعض العبوات في آلياته، أو بإحراق أخرى متخصصة في التنقيب عن الأنفاق.
ثم كان أن جاءت الصفعة الأولى لصفقة القرن من غزة حين قال أهلها إنه إن كان لنا من تمدد ونزوح، فسيكون باتجاه أراضينا التي انتُزِعنا منها بالقوة وتم تهجيرنا منها، لا باتجاه سيناء ولا غيرها، لأن غزة أكبر وأوعى وأعظم من أن تقبل بأن تكون ممراً لأية تسوية مشبوهة، فليست غزة بيئة التسويات والصفقات، هذه الأرض التي تموج عنفواناً تتقن التعبير عن رفضها عملياً ولا تكتفي بالإدانات الباهتة، وقولها يوافق فعلها، وليست كمن يتغنى بالمقاومة السلميّة لكنه يقمعها أو يقعد عنها أو يفشل في توظيفها في اتجاهات مجدية يمكن أن تصنع مزيداً من الضغط على الاحتلال.
إن السلطة الفلسطينية غير مؤهلة لمواجهة صفقة القرن، ولا لتحدي قرار الرئيس الأمريكي بشأن القدس ولا لإطلاق مقاومة شعبية فاعلة أو حتى شكلية، هي تزعم حملها لواء المقاومة الشعبية لكنها لا تجرؤ على إطلاق سراحها من قيد حساباتها المرتعشة، لأنها من جهة تخشى أن تنفلت وتتطور وتتجاوز السقوف المسموح بها، ولأنها من جهة أخرى تخشى تبعات رعايتها لهكذا توجه، فإن كانت تواجه اليوم ضغوطاً أمريكية كبيرة لأنها فقط لم توافق على صفقة القرن وأبدت ممانعة كلامية لقرار ترمب، فكيف سيكون الحال لو أنها رعت بالفعل مقاومة شعبية في الضفة الغربية، أو غضت الطرف عنها وأفسحت لها لتعبر عن نفسها وتتطور تلقائيا؟
تلك أمور لا شك أن السلطة تضعها في حسبانها، ذلك أنه إن كان لا يسعها إبداء أي مرونة تجاه قرار ترمب وصفقات إدارته وضغوط دول الإقليم نظراً لما يمثله الخضوع من فضيحة سياسية أبدية للسلطة، فإنها ترى أنه يسعها أن تحافظ في المقابل على بقائها، وأن تغازل الكيان الصهيوني بالخدمات الأمنية المقدمة له، إن على صعيد تجفيف منابع المقاومة في الضفة، أو عبر إدامة حالة الجمود الميداني فيها، ولا بأس في سبيل ذلك من استخدام ما شاءت من أساليب الدعاية، فهي تعلم أن المهم ما يجري على الأرض، وما يبدو الاحتلال متيقنا منه فيما يخص التزامها باستحقاقات التعاون الأمني.
لذلك كله، ففي ردود فعل الاحتلال على مسيرة العودة وانشغاله طويلاً بها تحليلاً وتهديداً وتحسباً وتخوفاً من مآلاتها، يبدو واضحاً أي مشروع ذاك الذي يزعج الاحتلال ويخيفه ويصنع قلقه، وأن غزة، ورغم كل ما تمر به من ضائقة ناتجة عن اشتداد الحصار، ستظل صاحبة المشروع الفعلي في مناجزة الاحتلال، عسكرياً وشعبيا، لأن هناك إرادة سياسية صادقة ترفع راية المواجهة، وتعدّ نفسها وشعبها وأرضها لمتطلباتها باستمرار، وهنا يبدو جلياً كيف تنتكس إرادة المقاومة في بيئة طاردة لها ومتآمرة عليها، وكيف تنتعش وتعلو ويشتد عودها في أخرى معينة لها وحاضّة عليها.
تلك حقيقة ملموسة قلّ أن يختلف عليها عاقلان، لكن التذكير الدائم بها يظلّ مطلوبا.