صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية نشرت مادة عبر صفحاتها بعنوانٍ رئيسي "إذا أكملت حماس هذا الطريق سيتم تجسيد الكابوس الإسرائيلي"، وهو يحتمل بطبيعة الحال نقطتين مهمتين، وهي مكونة من شقين يستلزم علينا نفي نصفه والتأكيد على نصفه الآخر.
النصف الأول هو الرواية الرسميّة الإسرائيليّة التي تحاول دفع المسيرة لمربّع الفصائليّة ووصمها على إنها مسيرة لـ"حماس" وليست مسيرة شعبيّة سلميّة طبيعيّة ضد الاحتلال، وهو ما يجب التأكيد على أنّه "خرّاف فاضي"!
أما النصف الثاني من العنوان، فهو صحيح جدًا هذه المرة، ذلك لأن المسيرة تحقق بكل الأشكال "الكابوس الإسرائيليّ"، وبصورةٍ أدق، إذا أخذنا النصف الثاني من العنوان، بفكّر ملائم جدًا لقراءة الحدث. وبصراحة، الحدث الذي يجري في غزّة، إذا أخذناه في القراءة والتحليل على محمل الجد، وبشكل تاريخيّ غير راهن، متعلّق باللحظة، من الممكن أن يكون حدث مفصليّ، في حال تم المراكمة عليه فلسطينيًا وشعبيًا.
في اللحظة التي نبدأ بقراءة الحدث من خارج اللحظة الراهنة، سنكتشف ثلاث عوامل في هذه المسيرة، بالغات الأهمية.
أولًا: لا يمكن فصل المسيرة السلميّة عن تاريخ المنطقة التي انطلقت منها، كمنطقة جغرافيّة فيها مقاومة مسلّحة شكّلت منظومة ردع مقابل "إسرائيل"، ما يضع "إسرائيل" في موقع المدافع إذ لا تستطيع الدخول بين المتظاهرين وتفريقهم بأدوات مقاومة التمرّد المعروفة لديها، مثل الاعتقالات من قلب المتظاهرين والمستعربين والخيّالة وسيّارات المياه العادمة.
بكلماتٍ أخرى، يمكن التأكيد أنه "لا سيطرة لإسرائيل" على ما يجري في أرض غزّة داخل حدودها بسبب وجود مقاومة مسلّحة شرسة ممكن أن تحوّل المعركة من شعبيّة إلى مسلّحة داخل أزّقة غزّة وهذا أكثر ما تريد "إسرائيل" أن تبتعد عنّه حتّى في حالة العدوان. وهنا تحديدًا، يثبت الحدث في غزّة أن المقاومة السلميّة والمقاومة المسلّحة ممكن أن يأخذوا شكل تكامليّ وليس تنافريًا، مثلما فعل الانقسام البغيض.
ثانيًا: المسيرة تُعيد تسليط الضوء على القضيّة الفلسطينيّة من خلال تبنّيها لخطاب عليه إجماع في الشارع الفلسطينيّ وهو حق العودة، وهو بذات الوقت جوهريّ وأساسيّ في الصراع مع الصهيونيّة. وهنا تحديدًا، يمكن البناء من خلال التجربة على تبنّي برنامج سياسيّ موحّد فلسطينيًا خارج خطابات التقسيم، وأرقى وموحّد أكثر من الخطابات الموجودة كـ"القومية، الإسلامية، الدينية، الشيوعيّة، الليبراليّة". ويخرج بالشارع الفلسطينيّ من الاستقطاب الداخليّ إلى توجيه القضيّة السياسيّة إلى مربّعها الأساسيّ: "حركة تحرّر من حركة استعمار استيطانيّ إحلاليّ كالصهيونيّة".
ثالثًا: في المقاومة السلميّة الشعبيّة، يستطيع أكبر عدد وكم من الشعب أن يُشارك دون محدّدات السلاح وما يفرضه من كفاءات ومهارات وتضحيات على من يريد المشاركة في الفعل السياسيّ. وبكلمات أدق، بهذا النوع من النشاط السياسيّ بيشارك الشاب والختيار والطفل يستطيع أن يأخذ دوره، وهذا غاية في الأهميّة لتحقيق هدف مركزيّ، وهو "إعادة القضيّة إلى الشعب، ومن الشعب".
كلّ ذلك مهم، لأجل حتى الذين يطالبون بالتغيير في فلسطين، لايجاد الميدان، ليغيّروا فيه ويبنوا من خلاله بنى سياسيّة- اجتماعيّة جديدة تدفن الماضيّ بما فيه من احتكار الفعل السياسيّ من هذا التنظيم أو ذاك.
وبالختام، شكرًا غزّة لأنك تجعليننا نكتب بأمل.