شبكة قدس الإخبارية

نفاذ قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني: المجتمع المدني وانكفاء الدور

محمد الهندي

دخل قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني (القرار بقانون رقم 16 للعام 2017)، حيّز التنفيذ بعدما صادق عليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في تموز 2017. وعلى إثر نفاذ القانون، اعترض عدد من مؤسسات المجتمع المدني، خاصة الحقوقية منها، عليه وطالبت بإلغائه، ونظمت حملات مناهضة له، إلا أن القانون ما زال نافذًا رغم مضي قرابة عشرة أشهر على صدوره. واعتُقل بالفعل عدد من الفلسطينيين، منهم ستة صحفيين على خلفية آرائهم، وقُدمت لهم لوائح اتهام تستند إلى مواده. وهو ما يعطي مؤشرًا على محدودية الحراك المدني في متابعة ملفات الحريات العامة.

الحريات في تراجع طال الانقسام، الذي وقع في العام 2007، بعد السيطرة العسكرية لحركة "حماس" على قطاع غزة، السلطة التشريعية، إذ حيث شهدت الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تزاحمًا في إصدار القوانين والتعديلات القانونية عبر المجلس التشريعي (كتلة التغيير والإصلاح) في القطاع، والقوانين بمرسوم في الضفة الغربية، بما يخدم تعزيز كلتا السلطتين لنفوذها، بما في ذلك في مجال الإعلام والمعلومات في الفضاء الإلكتروني.

في قطاع غزة، أقرت كتلة التغيير والإصلاح قانون إساءة استخدام التكنولوجيا، وعلى إثره اعتقلت الأجهزة الأمنية واستدعت عددًا على خلفية نشر آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي تحت مبرر إساءة استخدام التكنولوجيا. في المقابل، عطلت مجموعة من الإجراءات والقوانين في الضفة العديد من الحريات، شمل ذلك حجب أكثر من 20 موقعًا إلكترونيًا بتاريخ 15/6/2017. وتلاه مصادقة الرئيس محمود عباس بتاريخ 24/6/2017 على قانون الجرائم الإلكترونية بناءً على تنسيب من مجلس الوزراء بتاريخ 20/6/2017، ونُشر في جريدة الوقائع الفلسطينية بتاريخ 9/7/2017.

قانون الجرائم الإلكترونية ومواقف الأطراف

الحكومة

ترى الحكومة الفلسطينية أن هناك حاجة ماسة إلى وجود قانون للجرائم الإلكترونية، لا سيما في ظل الانتشار الكبير لوسائل الاتصال عبر الإنترنت الذي رافقته حالات إخلال بالسلوك العام والتحريض. وفي هذا السياق، قال رامي الحسيني، المستشار القانوني للحكومة: تكمن أهمية القانون في سد الفراغ القانوني الهائل المتعلق بالجرائم الإلكترونية، لا سيما أنها تتزايد بشكل ملحوظ، وأنه يهدف - بالأساس - إلى معاقبة من يسيئون استخدام تقنيات المعلومات.

وأكد أن القانون يراعي الاتفاقيات الدولية والقوانين والتشريعات الفلسطينية. وتعاملت الشرطة الفلسطينية في الضفة الغربية مع العديد من حالات الابتزاز التي تتم عبر وسائل التواصل الإلكترونية، منها، على سبيل المثال، تعرض فتاة من الخليل إلى ابتزاز من شخص أوهمها أنه من فلسطينيي 1948، إذ كان يستخدم شريحة "سيلكوم" إسرائيلية، وتمكن من الحصول على صورها، ودفعت له مبلغ 10 آلاف شيقل و250 غرامًا من الذهب لقاء عدم عرض صورها على موقع "فيسبوك"، لكن الشرطة تمكنت من إلقاء القبض عليه بعد تتبع عنوان الــ (IP) الخاص به، وتبين أنه من مدينة طولكرم.

المجتمع المدني ..

بيانات ومناشدات لاقى القانون استهجانًا من قبل منظمات المجتمع المدني التي رأت فيه مساسًا بالحريات العامة وخصوصية المواطنين، ورأته مخالفًا للقانون الأساسي الفلسطيني. وتعالت أصوات مطالبة بتعديله، ورأى بعضها أنه غير قابل للتعديل وطالب بإلغائه. من المواقف في هذا الصدد ورقة موقف صادرة عن مركز الميزان لحقوق الإنسان بتاريخ 12/9/ 2017، إذ طالب بوقف العمل بهذا القانون، والعمل على تعديله بما ينسجم مع التزامات دولة فلسطين الناشئة عن الاتفاقيات التعاقدية لحقوق الإنسان، والعمل على جعل أي تعديل وبغض النظر عن مشروعيته القانونية والدستورية منسجمًا مع نص وروح القانون الأساسي، وضبط الألفاظ والمصطلحات بما يحول دون احتمالها أكثر من وجه، وجعلها أداة قمع للحريات المدنية والسياسية، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير.

دوليًا اعتبرت الأمم المتحدة القانون انتهاكًا لحرية الرأي والتعبير التي كفلتها العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية، ومنها معاهدات وقعت عليها دولة فلسطين. وجاء هذا الموقف في خطاب ديفد كاي، المقرر الخاص في الأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، الذي نُشِر على الموقع الإلكتروني الرسمي التابع لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان موجهًا إلى الحكومة الفلسطينية، وجاء فيه "نحن نعرب عن قلقنا العميق من أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات يوظف مصطلحات فضفاضة على نحو مبالغ فيه، بحيث تفتقر إلى تعريفات تتسم بقدر وافٍ من الوضوح، وأنه يجيز للسلطات أن تجرم التعبير عن الرأي على شبكة الإنترنت، ويفرض عقوبات بالغة القسوة على من يخالف أحكامه.

وفي ظل غياب قانون بشأن حرية المعلومات، فقد يفضي هذا الواقع إلى مأسسة الانتهاكات التي تمس الحقوق السياسية، من قبيل الحقوق الواجبة للمواطنين الفلسطينيين في الخصوصية وفي حرية التعبير عن الرأي، ناهيك عن التعدي على عمل الإعلاميين، بمن فيهم الصحفيين، وسلامتهم في فلسطين".

مناهضة القانون ..

تراجع تأثير المجتمع المدني في الوقت الذي تنوعت فيه الجهود المؤسساتية والمجتمعية والدولية في التعبير عن استياءها من القانون ورفضها له بشكله الحالي، تنوعت أيضًا ردود السلطة الفلسطينية وجديتها في التعامل على الجهات المطالبة بإلغاء أو تعديل القانون. وبتاريخ 16/8/2017 ردت الحكومة على رسالة المقرر الخاص في الأمم المتحدة برسالة وضحت فيها مبررات وجود هذا القانون، وأكدت أنه قابل للتعديل ليصبح ملبيًا للاتفاقيات الدولية التي تلتزم بها دولة فلسطين.

أما بخصوص التعديلات التي قامت بها لجنة مواءمة التشريعات في مجلس الوزراء، والتي تضم في عضويتها عددًا من مؤسسات المجتمع المدني بصفة مراقب، فصادق عليها مجلس الوزراء في كانون الأول 2017، بعدما أحالت وزارة العدل الفلسطينية القانون إلى اللجنة، ولكن حتى تاريخ هذه الورقة (آذار 2018) لم يصادق عليها الرئيس.

وأكدت مصادر في الهيئة، في مقابلة شخصية، أن هذه التعديلات لا ترتقي للمستوى المطلوب، وأشارت إلى أن قانون الجرائم الإلكترونية لم يعد أولوية حاليًا، إذ طرأت قضايا مهمة يجب متابعتها، ومنها ما يمس قوت المواطنين وأرزاقهم كقانون التقاعد المبكر.

من جهتها، أكدت نقابة الصحافيين أن إلغاء قانون الجرائم الإلكترونية سيبقى على جدول أعمالها، وجاء ذلك على لسان عمر نزّال، مسؤول لجنة الإعلام والعلاقات العامة.

ورأت النقابة أن جهود إلغاء القانون ستنجح إذا ما بقي الموضوع حاضرًا على أجندة مؤسسات المجتمع المدني، وإذا تغيرت الظروف السياسية الفلسطينية الداخلية.

لم تنجح جهود المجتمع المدني بعد، والقانون ما زال نافذًا، وترى مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني، ومنها نقابة الصحفيين ومؤسسة الحق، أن جهود تعديل القانون تراجعت بعد مرور عشرة أشهر على إقراره، والسبب في هذا يعود إلى تزاحم أجندة مؤسسات المجتمع المدني بقضايا جديدة، مثل محكمة الجنايات الكبرى، والتقاعد القسري، والموازنة، والإصلاح القضائي. رغم تراجع الجهود، تؤكد العديد من مؤسسات المجتمع المدني أن موضوع تعديل القانون سيبقى على جدول أعمالها حتى تعديله بما يتوافق مع القانون الأساسي والمعاهدات الدولية التي تحمي الحريات العامة.

يشير ما سبق إلى تراجع تأثير المجتمع المدني في الدفاع عن ملف الحريات العامة، في هذا المجال. وفي هذا الإطار، تلخص وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة "فلسطينيات" المتخصصة في شؤون الشباب والمرأة، مظاهر انكفاء المجتمع المدني الفلسطيني وتدني فعاليته في متابعة ملفات الحريات العامة بالقول: إنه أصبح مرادفًا "للحياد السياسي" والفردية في الأداء، مشيرة إلى أن المجتمع المدني في الكثير من الأحيان يتم توظيفه لخدمة الأجندة الحزبية، مذكرة باستخدام نقابات الموظفين لإفشال الحكومة الفلسطينية العاشرة التي شكلها رئيس الوزراء السابق "إسماعيل هنية" عقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية العام 2006.

المجتمع المدني الفلسطيني .. معالم جديدة

مرت مسيرة تطور المجتمع المدني الفلسطيني في مرحلتين: المرحلة الأولى في عقدي السبعينيات والثمانينيات ما قبل اتفاقيات أوسلو (1994-1993): اتسمت بالتفاف الجماهير حول المنظمات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني وتجذر المجتمع المدني في حركة التحرر الوطن؛ المرحلة الثانية: (ما بعد أوسلو) اتسمت بظهور مجموعة من منظمات المجتمع المدني التي تغيرت أولوياتها وأصبح عملها احترافيًا يتركز على المساهمة في العمل التنموي وفق الثقافة الدولية.

يشير طارق دعنا إلى ذلك التحول بقوله "قد طرأت تغيرات في مرحلة ما بعد أوسلو على المنظمات غير الحكومية على حساب أشكال أصيلةٍ أخرى من التنظيم في المجتمع المدني، حيث طالت أبعاد التغير دور القاعدة الشعبية، والمكانة السياسية، والتغير في أجندة المنظمات".

وبعد هذا التغيّر النوعي الذي شهده قطاع مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين عقب قيام السلطة، جاء الانقسام لتنتج عنه معالم للمجتمع المدني، أبرزها تسييس هذه المنظمات من حيث تبعيتها لهذا التنظيم أو ذاك، مما أصاب جهود هذه المؤسسات بالتشتت، وضعف الفعالية في تحقيق أهدافها وقيامها في مهامها، الأمر الذي معه أصبحت فيه عاجزة عن إحداث تغيير إيجابي في حالة حقوق الإنسان الفلسطيني والمطالبة بتعزيز حرية الرأي و التعبير.

وفي نفس السياق، فإن حالة الانقسام أوجدت انتهاكات تمس المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، سواء على صعيد ممارسات الأجهزة الأمنية، أو على صعيد التشريعات، الأمر الذي أدى إلى ضعف أثر الجهود المقدمة من المؤسسات من جهة، وإلى خلق خلاف وتبادل اتهامات فيما بينها في معرض التعليق على أي انتهاك يمارسه أحد طرفي الانقسام.

يضاف إلى ما سبق، التزايد الملحوظ في التشريعات والإجراءات التي تمس الحريات العامة وقوت المواطن الفلسطيني في الضفة والقطاع، ما أدى إلى حالة من تداخل الأولويات لدى مؤسسات المجتمع المدني نتيجة ازدحام أجندتها بقضايا جديدة، الأمر الذي أثر على فعالية دورها تجاه بعض القضايا كقانون الجرائم الإلكترونية.

يزيد هذا الوضع سوءًا تعطّل السلطة التشريعية التي تقدم لها مؤسسات المجتمع المدني في الوضع الطبيعي اقتراحاتها لتعديل أو إيجاد النصوص القانونية حول قضايا معينة، فيناقشها ممثلو الشعب لإقرارها أو رفضها. وغياب دور المجلس التشريعي الفلسطيني يعني غياب هذه العملية، مما يضيف سببًا آخر لانكفاء دور تلك المنظمات.

خطت مؤسسات المجتمع المدني خطوات واضحة في مجال نشر القيم الديمقراطية، والاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، إلا أنها في نفس الوقت لا تطبق مبادئ الديمقراطية في نطاق عملها، مما يغيب المصداقية عن هذه المؤسسات أمام الجمهور.

ومن مظاهر غياب الديمقراطية داخل مؤسسات المجتمع المدني تولي بعض الشخصيات قيادة هذه المؤسسات فترات طويلة، مناقضًا بذلك مبدأ تكافؤ الفرص، وحق المشاركة، والتفويض، ويقوض روح الإبداع والمبادرة الذاتية لدى الأفراد.

وأخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن مؤسسات المجتمع المدني نجحت في تبرير اعتراضها على قانون الجرائم الإلكترونية، كما برز في المذكرات القانونية التي أصدرتها المؤسسات الحقوقية، إذ أظهرت بشكل واضح مساسه بالحريات.

وعلى الرغم من إجماع مؤسسات المجتمع المدني على ضرورة إلغاء القانون ونجاحها في إيصال رسالة اعتراضها عليه إلى الحكومة وكل الأطراف ذات العلاقة، وعلى الرغم من الرفض الشعبي الواسع له بدليل التفاعل الكبير مع الهاشتاغات المطالبة بإلغائه، إلا أن القرار بقانون الجرائم الإلكترونية لا يزال نافذًا، ولم يتم إلغاؤه أو تعديله.

يظهر فشل جهود مؤسسات المجتمع المدني في إلغاء أو تعديل القانون معالم مجتمع مدني جديد قد تبلور، أبرز معالمه التشتت، وضعف الدور والتأثير في رسم السياسات العامة والقوانين. وما لم تعد مؤسسات المجتمع المدني تقويم أوضاعها بما يضمن قدرتها على التأثير، سيستمر تراجع الحريات العامة، مما سيزيد من وضع الحريات سوءًا في فلسطين.