شبكة قدس الإخبارية

"جزيرة فاضل".. قرية فلسطينية على أرض مصرية

هيئة التحرير

نقلاً عن المصري اليوم - محمد طارق

على يمين الطريق الزراعى المتجه إلى مدينة فاقوس بمحافظة الشرقية ينتصب سور طينى طويل يحيط بمنطقة تسمى «جزيرة فاضل»، يسكنها حوالى 3 آلاف فلسطيني، هُجروا من مناطق مختلفة فى فلسطين إبان حرب 1948، ورحلوا رغماً عنهم تاركين خلفهم ديارهم.

أخذهم طريق البحث عن لقمة عيش فى غياهب الزمن وفى قرى ونجوع مصر قبل أن يستقروا واحداً تلو الآخر فى قرية مصرية صغيرة اسمها «جزيرة فاضل» أو «جزيرة العرب»، لا يعرفون من هو «فاضل»، لكن استقرت أسر من المهجرين فى هذا المكان وتبعهم فلسطينيون آخرون حتى تحول تجمعهم إلى «قرية فلسطينية فى المهجر».

أربعة أجيال مرت على الجزيرة ومازالت تعانى من مشاكل الفقر والأمية وانتشار الأوبئة لتصبح إحدى قرى الدلتا التى تنافس نجوع الصعيد على لقب «أكثر القرى فقرا». الجيلان الأول والثاني من المهاجرين حافظا على العزلة بالزواج من فلسطينيين فقط، لكن الجيلين الثالث والرابع بدآ بالاختلاط عبر الزواج من مصريين ومصريات.

بين الممرات الطولية التى تشكل هيكل القرية كان محمد سالم «22 سنة»، أحد شباب القرية الأميين، يسرع الخطوات إلى بيت العمدة ممسكاً فى يده نسخة من جواز سفر والدته وإثبات هوية بعض السيدات ليعطيها إلى عيد سالم، المتعلم الوحيد فى الجزيرة، الذى يتعامل مع السفارة الفلسطينية بالقاهرة، ليطلب منه التدخل بعد انقطاع المعاش عن نسوة الجزيرة، 250 جنيهاً كانت تشكل سنداً لكل بيت بجانب الجنيهات القليلة التى يتقاضاها كل فرد شهرياً فى الجزيرة من عمله فى جمع المحاصيل أو جمع وإعادة تدوير القمامة.. هما الوظيفتان المتاحتان لأغلب أبناء الجزيرة من الرجال والنساء والأطفال.

تتكون القرية من عدة ممرات من الطوب الطينى، تفوح من الشوارع رائحة العطن والقمامة التى يجمعها أهل القرية لتدويرها وإعادة بيعها، لكنها تتميز عن باقى قرى الدلتا بخلوها من أى ماشية أو طيور أو مدارس أو وحدة صحية.

فى الطريق إلى بيت والدة محمد سالم، داخل أحد ممرات القرية، بيت مبنى من الطوب اللبن يتكون من غرفتين مظلمتين إحداهما أثاثها حصيرة وبطانية ومخدتان على الأرض للنوم وبعض زجاجات المياه المنثورة على الأرض، والأخرى بها سرير متهالك وبعض الكراكيب وأجولة من الزجاجات البلاستيكية.

أمام البيت افترشت مريم سعيد حماد، إحدى القادمات إلى الجزيرة مع الجيل الأول المهجّر منذ الاحتلال فى 1948، حصيرة.. امرأة فى منتصف العقد السابع ترتدى جلبابا وحجابا بسيطا. لا تتذكر مريم عمرها بالتحديد، ولا تمتلك أوراقا تثبت هويتها، لكن أول ما وعَتْه فى حياتها كان مشاهد تهجيرها مع والديها إبان النكبة.

قدموا إلى مصر، طافوا عدداً من المحافظات بحثاً عن لقمة العيش إلى أن استقروا فى الشرقية، بإعياء شديد وبحة صوت فى حلقها تقول مريم: «مخليناش بلد غير لما رحناها، لفينا بلاد كتير، كنت صغيرة وقتها، وكنا بندوروا على المعاش».

استقر بأهلها المقام فى جزيرة فاضل وتحولت بعد ذلك إلى مسقط رأس أولادها وأحفادها بعد أن تزوجت وأنجبتهم: «بيقولوا كنا من الجبل، لكنى مش فاكرة جبل إيه، معرفش قرايبنا أبداً، عجزنا يا وليدى».

الفقر وبحثها عن حد الكفاف واهتمامها بأولادها طغت على اهتمامها بالشأن الفلسطينى، كل ما تعيه من الاحتلال هو الحرب فقط لكنها لا تعلم شيئا عن التهويد أو رفع العلم الإسرائيلي على أسوار القدس.

وسط حديثها أمسكت عصاها بيدها اليسرى تنهر الأطفال الذين تجمعوا حولها. صائحة فيهم: «امشوا.. انزاحوا»، المشاكل التى تعانى منها مريم «مالهاش عدّ» - حسب قولها - مضيفة: «هقولك إيه يا ولدى، المشاكل كتير، العيا والمعيشة، بقالى 15 سنة عيانة، وقاعدة هنا على الأرض، الحمد الله دلوقتى قدرت أقف على عصاية، لكن مافيش دكاترة بيجولنا، ولا نعرف الأدوية».

أولادها الثلاثة لم تتحسن ظروفهم نسبياً مقياساً بالجيل الأول القادم بعد التهجير، نفس الحرف باقية والفقر لا يترك أحداً، تضيف مريم: «العيشة هى اللى صعيبة وربنا أعلم، نوبة بنشتغلوا فى جناين ونوبة بنشتغلوا فى الخردة».

بعدها بخطوات فى الطريق تسكن «نافلة حسين سالم»، إحدى المتبقيات من المهجّرين الأوائل بعد النكبة. داخل الدار الأسمنتية الخاوية من الأثاث تجلس على قطعة من الخيش ممسكة قماشة لطرد الذباب الذى يملأ المكان، وعلى يمينها زجاجة مياه بلاستيكية، ربما يكون احتياجها الوحيد هو الماء فى المنزل شبه الخالى من الطعام.

تستقبل من يدخل عليها الدار بوجه تملؤه التجاعيد، ضعف البصر جعلها تدقق النظر فى الضيوف، كأغلب نسوة جيلها فى القرية، لا تتذكر عمرها بالتحديد، تقول ربما 70 أو 80، توفى والدها وقت الحرب وهُجّرت مع أمها وهى صغيرة وجاءت إلى مصر، طافت عددً من محافظات الدلتا لكنها استقرت فى النهاية هنا فى القرية.

بصوت يغلب عليه الإعياء تحكى بلهجة مصرية خالصة: «أنى اتولدت فى فلسطين، وقتها كنت صغيرة، رحلنا إلى السنبلاوين فى البداية وبعدها جينا نسكن هنا فى جزيرة فاضل، وقتها لم يحاول أحد مساعدتنا، جايز حالة الفلاحين وقتها ماكانتش تفرق عننا لأنهم كانوا تحت الاحتلال الإنجليزى»، تضيف: «لم نجد أحداً يهتم بنا، أحضرنا حطبا وبدأنا نبنى بيوتنا لما جينا على الجزيرة واتجوزت وخلفت ولد».

«نافلة سالم»: والدى هرب إلى «السنبلاوين» قبل الاستقرار فى «الشرقية».. و«تمام سليمان»: ما نعرفش قرايب فى فلسطين لكن بنحلم نرجع بلدنا

يرعى «نافلة» ابنها الوحيد حسان أبومحمد، تتذكره باكية بعد انقطاع معاشها: «ابنى بيشتغل وبيوكلنى دلوقتى بعد ما مراته روحت»، منذ أسابيع تركته زوجته هرباً من الفقر وقسوة العيش، وعادت إلى بيت أبيها فى إحدى القرى المجاورة.. تتنهد «نافلة» وتشتكى من المرض.

لا يختلف حال «مريم» و«نافلة» عن سكان القرية، حتى الأجيال الجديدة منهم، تفتقر بيوت القرية إلى الخدمات، حيث تتكون من غرفة أو غرفتين، بعضها مازال طينياً والبعض من الطوب الأحمر المتراص فوق بعضه ببساطة، والبعض من الطين والطوب الأحمر، لكنها خالية من الخدمات والصرف الصحى كما يقول «سلامة سيد حسين - 34 سنة»: «كل ساكن بنى بجانب بيته خزان تحت الأرض كل 10 أو 20 يوم ييجى الجرار يشفط المجارى بعشرين جنيه للنقلة، ويرميها بمعرفته، هناك بيوت اشتركت فى الخزان لتوفر 10 جنيهات».

بيت صغير من طابق أرضى يرتفع عن الأرض بأربعة سلالم، تجلس أمامه «فرحانة سليمان محمد الناموسى» وسط أحفادها، واضعة على رجلها طبقاً معدنياً صغيراً تلتقط فتاته لتطعم طفلة منهم. فرحانة ابنة لفلسطينيين تزوجا فى فلسطين ورحلا بعد الاحتلال بأشهر قليلة ورزقا بالطفلة فى «جزيرة فاضل»، تزوجت «فرحانة» وأنجبت 8 أولاد.

السيدة العجوز كانت تعتاش على 250 جنيهاً قيمة معاش التضامن الذى أقره الرئيس السابق حسنى مبارك قبل أن يتم إلغاؤه عقب ثورة يناير بنحو 13 شهراً، فأضاف أزمات اقتصادية أكبر على العائلة. بإبتسامة راضية قالت: «كنا بنقبض معاش والعملية ماشية، وبعد ما حسنى مشى قعدنا نقبض سنة وبعدين قطعوه عننا»، تضيف مازحة: «بيقولوا محمد مرسى هو اللى قطع علينا القبض، وقطع المعاش على كل الفلسطينيين».

معاناتها زادت بعد وفاة الزوج، اضطر ابنها محمد للعمل فى جمع القمامة وترك المدرسة لتوفير قوت يومهم، لكن حملهم زاد بعد وفاة زوج إحدى بناتها «ابتسام» فى حادث تصادم على الطريق حين كان يجر «عربية كارو» تجمع القمامة من على الطريق الزراعى، ومرضت ابنتها الصغيرة بالغضروف فتركها زوجها «وراح يقرا فاتحة على بنت فى قرية (سنجها) المجاورة».

تشكو حالها وحال القرية: «معايا 8 عيال ما عارفة أوكلهم منين. كل الأرامل والمطلقات هنا انقطع عليهم القبض، وعملنا بلاغات ومافيش حد سائل فينا. بنتى اللى جوزها مات فى حادثة عربية وسابلها ابن بتجمع لمون فى الجبل بـ15 جنيه فى اليوم عشان توكله، والتانية حداها غضروف وعندها فتاء، عاوزة كل يوم جلسة كهرباء، وقالوا عاوزة عملية بـ20 ألف، أجيبهم منين؟ عملتلها إشاعة فى أبوكبير بـ250 جنيه استلفت عشان أوفرهالها».

لا تزال فرحانة تحتفظ ببطاقة التموين التى كانت تحصل بها على بضع سلع غذائية كانت تعينها على توفير قدر من مستلزمات البيت، قبل أن يتم إيقاف التموين عنهم مع المعاش.

فى آخر الحارة تسكن «مريفة سالم بركة زيدان»، توفى ابنها سالم فى حادث تصادم على نفس الطريق الذى توفى فيه زوج ابنه فرحانة، اثنتان من بناتها تعملان فى جمع المحاصيل فى الجبل.

«مريفة» لا تسكن هى وأولادها وحدهم فى البيت، تشاركها «تمام سليمان مرازيق»، كلهم يجمعهم - دون باقى أهالى القرية الذين التقيناهم - تمسكهم بحلم العودة إلى فلسطين، رغم عدم مغادرتهم الشرقية منذ أن ولدوا فيها، وهو ما جعل «مريفة» لا تقبل إلا بزوج فلسطينى عند زواجها، تقول: «خد تمساح ولا تاخد فلاح، لكن الأجيال الجديدة لا تفرق بين مصرى وفلسطينى فى مسألة الزواج» بحسب «مريفة».

تجلس «تمام» أمام المنزل واضعة أمامها موقداً ريفياً انتهى استخدامه فى معظم القرى، يسمى «كتانون»، تسخن عليه أرغفة عيش قديمة يلونها العفن بلونه الأخضر المعروف. هى لا تمتلك سوى هذه الأرغفة لتأكلها. تحكى: «أبويا وأمى فلسطينيين لكن ما أعرفش أى قرايب لينا هناك، ياريت نرجع وطنّا.. يا ريت».