في مقهى بيافا، التقى الحاج داود الحسيني بقائد الثورة الفلسطينية عبد الرحيم الحاج محمد، بحضور عدد من رفاقه واتفقوا معه على البدء بالعمل المسلح ضد الإنجليز من الجبال، مقابل دعمه بالسلاح.
من هو داود الحسيني؟
ولد "محمد داود" الحسيني في 9 آب بالعام 1903، في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، وكان والده صالح الحسيني معروفاً بتدينه حيث درس في الأزهر ونشاطه ضد الإنجليز والحركة الصهيونية من خلال صحيفة الأقصى التي كان يصدرها، وقد أمرت السلطات البريطانية بإغلاقها ومن ثم عادت للصدور قبل أن تتوقف نهائياً جراء عدم قدرة الحسيني على دفع مصاريفها.
وقد بدأ داود دراسته في مدرسة روضة المعارف قبل أن تغلق جراء اشتراك أساتذتها في الحرب العالمية الأولى مع الجيش العثماني، ومن ثم التحق بالمدرسة الدستورية التي أسسها الأديب خليل السكاكيني وبعد الحرب دخل مدرسة المطران سان جورج بالقدس، ومن ثم طرد منها بعد مشاركته في رسالة وجهت للورد البريطاني "نورثكليف"، وجراء ذلك توجه للقاهرة للدراسة وهناك اشترك في مظاهرات تأييد للزعيم سعد زغلول وتعرض للاعتقال، لكن ضابطاً مصرياً عامله باحترام لما علم أنه من القدس، ونصحه أن "يلتزم بالهدوء وإنهاء دراسته ويعود لمواجهة المستعمر بالعلم".
من قلب تفاعلاته مع النضال الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، كتب المُجاهد داود الحسيني مذكراته التي جاءت على قسمين أحدها متأخر بعد العام 1986، بوصفه من أفراد النخبة الفلسطينية وابن عائلة الحسيني المقدسية التي لعبت دوراً كبيراً في قيادة الحركة الوطنية، وقربه من الحاج أمين الحسيني رغم خلافاتهما في عدد من القضايا التي يستعرضها الكتاب.
المذكرات التي اشتغل عليها وأخرجها المؤرخ الفلسطيني سميح حمودة، تبرز أهميتها في سد النقص الذي تعاني منه الرواية التاريخية الفلسطينية في جمع الوثائق التاريخية المتناثرة في المؤسسات والبيوت والعائلات، كما توفر الوثائق والمذكرات التي دونها الحسيني صورة عن انطباعاته النفسية وصورة اليومي في كلامه ورؤيته للقضايا والأزمات خلال مسيرة عمره التي امتدت 90 عامًا.
في بداية الكتاب يفصل الاستاذ سميح عن تعريفات النخبة في الأنظمة والعلوم السياسية، ويتحدث عن النخبة الفلسطينية بالذات وأقسامها ضمن علاقتها مع الاستعمار سواء مقاومة أو تواطؤ، ويضرب أمثلة لكل منهم وكيف فرضت عليهم الجماهير الفلسطينية، في عدد من المراحل التاريخية سلوك طريق المواجهة مع الاحتلال البريطاني ومن خلفه العصابات الصهيونية.
الثورة العربية الكبرى وبداية العمل المسلح
يروي الحسيني في مذكراته كيف التقى بمقهى في يافا مع عبد الرحيم الحاج محمد، الذي أصبح قائد الثورة الفلسطينية فيما بعد، بحضور عدد من رفاقه واتفقوا معه على البدء بالعمل المسلح ضد الإنجليز من الجبال، مقابل دعمه بالسلاح، وهو "يدل على أن مشاركة عبدالرحيم في الثورة كانت "عفوية"، خلافاً لما ذكره إميل غوري في كتابه "فلسطين عبر ستين عاماً"، حيث قال إن تشكيل تنظيم الجهاد المقدس كان في العام 1936، بقيادة عبد القادر الحسيني وعضوية عبدالرحيم الحاج محمد، رغم أن الدلائل التاريخية تشير إلى أن جيش الجهاد المقدس أنشئ خلال حرب العام 1948.
كما يتحدث الحسيني عن كيف اتصل مع رفيقه مصطفى الطاهر مع عارف عبد الرازق، واتفقا معه على مده بالسلاح، مما يناقض رواية الغوري مجدداً الذي أدرج عبد الرازق ضمن أعضاء الجيش المقدس.
فيما تكشف التفاصيل الميدانية التي يسردها الحسيني في مذكراته، أن تنظيم الفلاحين خلال الثورة كان بفضل الثوار الذي عملوا في الجبال، ولم يكن للقيادة السياسية الفلسطينية ومركزها في القدس، دور في ذلك والتبرعات كانت تجمع من الناس ويذكر كيف أن المفتي دفع مبلغاً من المال كغيره من المتبرعين دون أن يكون له دور في جمع التبرعات.
يذكر الحسيني أن من بين المتبرعين للثورة كان الدكتور فؤاد الدجاني صاحب مستشفى العيون في يافا، وذكر الشاب حلمي أبو خضرة الذي لعب دوراً هاماً في تهريب السلاح من لبنان بعد شرائه، والشاب محمود حرارة من غزة الذي كان يحضر المسدسات داخل سلة خضار، إلى عيادة الحسيني للأسنان في يافا.
ومن الأحداث المهمة التي يرويها الحسيني دور الشيخ مصطفى الخيري، رئيس بلدية الرملة، في جمع السلاح للثورة، وكان خيري من أقطاب المعارضة الموالين لعائلة النشاشيبي، مما يدل أن علاقة المعارضين بالثورة معقدة وبعضهم اشترك ومول نشاطات المجاهدين.
في تقارير استخبارات "الهاغاناه" تتحدث عن مشاركة الحسيني خلال جولاته في جبال فلسطين، في حضور محاكمة سعيد شقير قائد فصيل في جبال القدس ورام الله، بسبب تجاوزات ضد الأهالي، وقد تمت إدانته والحكم عليه.
وتروي المصادر الاستخباراتية الصهيونية، رغم عدم دقتها عن مجموعة من الشيوعيين الفلسطينيين كانت تعمل مع الثورة، لكن عبد الرحيم الحاج محمد أراد إبعادهم عن العمل، وكان الحسيني يتبنى وجهة نظر أنه يجب التعاون معهم، لكن التقرير الصهيوني يتحدث أن الحسيني كان من الشيوعين وهو من لم يعرف عنه انه انتسب لأي حزب أو كان شيوعياً.
الاغتيالات السياسية
يتحدث سميح حمودة عن جانب مهم من تاريخ الثورة الفلسطينية، وهو الاغتيالات التي استهدفت عدداً من الرموز والنخب وبعضهم كان متعاوناً مع الانجليز والصهاينة، وجزء من هذه الاغتيالات ساهم في خلق شرخٍ هام في المجتمع الفلسطيني، ومن بين هذه الاغتيالات قتل شقيقين من عائلة إرشيد في جنين مما دفع العائلة للالتحاق بالمعسكر المقابل للثورة وتأسيس فصائل السلام، التي تعاونت مع الإنجليز وقاتلت الثوار.
وعن علاقة داود الحسيني بالاغتيالات فقد اتهم المحامي عمر الصالح البرغوثي في مذكراته، الحسيني بالضلوع في الاغتيالات، وذكر فيصل عارف عبد الرازق في كتابه عن والده أن داود هو من أمر بقتل المحامي حسن صدقي الدجاني، ويستند لتقرير من "الهاغاناة" يتحدث عن عدد من الاغتيالات التي جرت في منطقة رام الله وكان خلفها داود الحسيني من ضمن محكمة شكلت لذلك.
داود الحسيني ينفي في مذكراته علاقته باغتيال الدجاني، ويؤكد أن قتله جاء ضمن سياسة التفريق التي اتبعها الاحتلال الإنجليزي، ويورد عدداً من الشواهد على عدم معرفته بالخبر إلا من خلال الإذاعة، وروى أنه التقى في القاهرة مع أحد أشقاء الدكتور محمد الدجاني وقال له: "أهلك في القدس والسلطات البريطانية تزعم أني قتلت حسن صدقي الدجاني لغاية في نفسه، ولا أريد الآن أن أجادل، ولا أدري متى أصل القدس، وهل ستسمح لي سلطات الانتداب بالعودة أم لا، ولكني أعتقد أنها ستسمح بهدف صب البنزين على النار". وعليه أرجو أن تكتب لأهلك وتبلغهم: إن كان لهم عندي حق فأمامهم ثلاثة حلول: إما المحاكم النظامية وهذا ما لا تريده السلطة، وإما المحاكم العشائرية التي لا نعرفها نحن أهل القدس، وأما الحل الثالث فهو أهونها، وهو ما تريده السلطة: إن كان لدى آل الدجاني نية لقتلي فإن رصاصة بنصف قرش كافية، فضحك الرجل وقال، ادخل القدس يا رجل وسِر في شوارعها ولن يتجرأ أحد منهم أن يكلمك ولحسن الحظ كان ذلك".
الإبعاد
بعد اغتيال الثوار القساميين للواء أندروز حاكم الجليل، اضطر داوود لمغادرة فلسطين للبنان بعد حملة الاعتقالات الواسعة التي شنها الإنجليز في صفوف الوطنيين، ومن لبنان واصل الحسيني الإشراف على عمليات تهريب السلاح للثوار وترك العمل في طب الأسنان ليشغل رسولاً خاصاً بين اللجنة المركزية للجهاد بدمشق وقيادة الثوار، وفي ربيع العام 1938 ضغط الفرنسيين لإخراجه من لبنان فتوجه إلى لواء الاسكندرونة وبقي هناك لمدة 3 شهور ومن ثم عاد لدمشق ولبيروت، قبل دخوله لفلسطين في شتاء العام ذاته.
ومن بين لقاءات الحسيني كانت مع المناضل الأردني صبحي أبو غنيمة، حيث أحضره لبيروت للقاء المفتي ربما للتخطيط من أجل القيام بثورة ضد الأمير عبد الله بسبب موالاته للانجليز ومحاصرته للثوار الفلسطينيين، حيث بعث أبو غنيمة رسالة للأمير عبد الله مهدداً: "أي عبد الله، سأثل عرشك".
وكان الحسيني من ضمن الفلسطينيين الذين خرجوا للعراق وشاركوا في ثورة الكيلاني ضد الإنجليز، قبل فشلها حيث تسلل لإيران وهناك اعتقل من قبل الإنجليز ونفيّ إلى روديسيا وقد كتب عن مشاهداته هناك ومعاناته وتعرفه على السياسة البريطانية في المستعمرات.
في الحركة الرياضية الفلسطينية
بعد تخرجه وعودته للعمل في يافا انضم داوود الحسيني للنادي الإسلامي في يافا، وفي العام 1931 تولى تشكيل الاتحاد الرياضي العربي الفلسطيني، وقد لعب الاتحاد دوراً هاماً في الدعاية السياسية الفلسطينية بمواجهة الرواية الصهيونية حول فلسطين وفتح المجال أمام الكفاءات الشبابية الفلسطينية في الساحة الرياضية.
النكبة والحكم الأردني
خلال معارك النكبة كان للحسيني دور من خلال منصبه مديراً لجيش الجهاد المقدس، وعمل على شراء الأسلحة وتهريبها، وبعد انتهاء الحرب انخرط في السياسة الأردنية من خلال مجلس النواب بين الأعوام 1956 و1936 للدفاع عن حقوق اللاجئين والوقوف في وجه أية محاولة للصلح مع الكيان الصهيوني.
وكان من الأحداث المهمة التي وقعت خلال فترة الحكم الأردني، اغتيال الملك عبد الله في العام 1951 وقد كان داود الحسيني من بين المتهمين بالوقوف وراء الاغتيال الذي نفذه الشاب مصطفى عشو، في ساحات المسجد الأقصى المبارك، وبعد شهور من الاعتقال أفرج عن الحسيني لبراءته وعدم ثبوت أي من التهم التي حاول المدعي العام وليد صلاح تلفيقها له.
لكن تجربة الاعتقال لدى السلطات الأردنية لم تكن الأولى، فقد تعرض للاعتقال في سجن الجفر الصحراوي جنوب الأردن، خلال عمله البرلماني وكتب عدداً من اليوميات هناك وفيها أحاديث متنوعة وتعليقات على الأحداث التي مر بها الوطن العربي والعالم وقتها.
مع بداية تأسيس منظمة التحرير كان للحسيني دور في التواصل مع الجاليات الفلسطينية، بأمريكا اللاتينية، حيث تولى مسؤولية الدائرة السياسية في المنظمة، لكن أحمد الشقيري لم يبق على عضوية الحسيني في اللجنة التنفيذية بعد حلها في العام 1966، رغم نشاطه الكبير "مما يعكس الطريقة التي أدار بها الشقيري للمنظمة وجلبت عليه نقمة الأعضاء"
بعد الاحتلال الصهيوني للقدس في العام 1967، شكل الحسيني مع شخصيات أخرى الهيئة الإسلامية العليا للدفاع عن المقدسات وقد تعرض للإبعاد في البداية إلى بيسان، وفي العام 1968 نفته إلى الأردن.
ولم يتوقف في الأردن نشاطه السياسي الداعم للمقاومة، وقد اشترك في العام 1970 بالحكومة التي شكلها الملك حسين وسميت "حكومة الفدائيين"، قبل أحداث أيلول الأسود، وفي عدد من الأحداث التي شهدتها المنطقة، إلى أن توفي في العام 1993 ودفن في مدينة القدس المحتلة.