شبكة قدس الإخبارية

الشهيد مصعب التميمي.. ولد بطلًا ورحل بطلًا

شذى حمّاد

رام الله – خاص قدس الإخبارية: 18 حزيران 2001، تعجل مصعب قافزا من رحم أمه في شهره السادس، فالوالدة ما عادت قادرة على حمله بأحشائها أكثر، بعدما اختنقت بالغاز الذي أطلق خلال استنفار جيش الاحتلال بحثا عن فدائي أفرغ رصاصاته برأس أحد الضباط الإسرائيليين قرب مستوطنة "حلميش".

تتوجع دينا التميمي داخل مركبة الإسعاف التي تحاول نقلها من قرية دير نظام شمال غرب مدينة رام الله إلى المشفى، ويواصل مصعب التشبث بالحياة مقررا خوض معركته الأولى بشجاعة، من داخل مركبة الإسعاف العالقة بين حواجز الاحتلال.

خالية مما كان داخل أحشائها، تعود دينا إلى المنزل، فيما تواصل العائلة جهودها إيصال المولود إلى المشفى التي وصل إليها بعد ساعات، وقلبه ما زال يخفق بالحياة.. "أين البطل؟ أين البطل؟" يسأل الأطباء المندهشين من نجاة مصعب الذي لم يكن حينها إلا كتلة من اللحم تزن كيلو ونصف، كما يصفه والده خلال حديثه لمراسلة "قدس الإخبارية".

 "إذا انت زلمة تعال وواجهني بلا سلاح، بدل الاستقواء على النسوان" يصرخ مصعب التميمي بجنود الاحتلال الذين اقتحموا منزلا في قرية دير نظام، فذاك المولود لم يتشبث بالحياة لأجل الحياة، وإنما لهذا اليوم الذي اشتد فيه ساعده وأصبح يتصدى لاقتحامات قوات الاحتلال ويصد اعتداءاتهم عن قريته.

الثالث من كانون ثاني 2018 تسود أجواء مشمسة ودافئة، يقول مصعب لوالده، "اليوم بدي أشعللها في البلد"، الوالد: "لا يوجد تصعيد اليوم.. القوى دعت ليوم الجمعة".. يرد مصعب: "وكيف أصبر ليوم الجمعة، أنا أريد اليوم".

غسل ملابسه التي اعتاد على ارتدائها في المواجهات اليومية التي يشارك بها، والتي كان يشير إليها بـ "ملابس المقاومة"، واستعد للانطلاق، "أخذ إحدى شفرات الحلاقة الخاصة بي، قلت له أن يأخذ واحدة جديدة، فقال غاضبا: يجب أن تفتخر أنه صار عندك رجل.. رغم أن لحيته لم تنبت بعد، إلا أنه أراد أن يحلق في هذا اليوم"، يروي فراس التميمي والد مصعب لـ "قدس الإخبارية".

ألتحق مصعب بالمواجهات التي بدأت تتصاعد في القرية منذ الساعة العاشرة صباحا، وبلغت أوجها عند اعتقال جنود الاحتلال أحد أبناء القرية من ذوي الاحتياجات الخاصة بعد أن اعتدوا عليه بالضرب المبرح.

"يلا شباب.. ما حدا يتراجع" يصرخ مصعب متقدما الشبان، معلنا الهجوم على جنود الاحتلال الذين يواصلون الهرب أمام الحجارة الغاضبة.

الهواء ما عاد يدخل رئتيه جيدا، يتعب، وتتباطأ خطواته، قبل أن يقرر الجلوس والتقاط أنفاسه، بعد أن تأكد من انسحاب قوات الاحتلال، وتوقف إطلاق الرصاص الحي.

"مصعب دير بالك القناص مصوب بارودته عليك" يقول أسامة، وقبل أن يكمل جملته يُسمع صوت طلقة نارية واحدة، يستلقي أسامة على الأرض، ويتمدد مصعب بجانبه.

"مصعب.. مصعب" ينادي أسامة وشقيقه لا يرد النداء، ينهض.. يقترب منه ويقلبه على جنبه الثاني، فيرى نافورة الدماء تتدفق من عنقه، "إصابة.. إصابة" يصرخ الشبان.

انتزع صوت الرصاص جزءا من قلب فراس الذي كان يركن سيارته عائدا إلى المنزل بعد فشله وأهالي القرية من استعادة الشاب المعتقل، ليعود مجددا بسيارته مسرعا إلى المكان، وصوت الشبان الغاضبين يعلو أكثر، "إصابة.. إصابة".

تسارعت خطواته إلى الشاب المصاب الذي قرر أن يحمله وينقله بمركبته إلى المشفى، فلا سيارة إسعاف بالقرية.. الدم يخرج من فمه وأذنيه وأنفه ويغطي ملامح وجهه ويخفيها، والشبان يتهامسون في الخلف، "إنه مصعب"، فيتعرف فراس على ابنه.

ينظر الوالد إلى المرآة حيث صورة ابنه الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة خلفه، يستجمع فراس قواه بعد أن تيقن أنه سيفقد ابنه فيطلب منه أن يردد الشهادتين، "أب ويرى ابنه مذبوحا أمام عينيه.. لا أعلم كيف قدت السيارة على طول الطريق، لا أعلم كيف وصلت المشفى"، يقول والد مصعب لـ "قدس الإخبارية".

استجاب مصعب لتوسلات والده، فتح عينيه وبحلق بالمرآة حيث عينا والده تراقبه، وودعه بنظرة ستبقى عالقة ببال فراس إلى الأبد، والتقط آخر نفس له في هذه الحياة، ليصل إلى المشفى بقلب متوقف لا ينبض.

قبل ثلاثة شهور عاد مصعب وعائلته من الأردن بعد أربعة أعوام من الغياب، ومنذ عودة العائلة ومصعب كباقي شبان القرية يشارك بالمواجهات التي تندلع في القرية، متصديا لاقتحامات جنود الاحتلال واعتداءاتهم واستفزازاتهم.

فرغم تشكل وعي مصعب بالقضية الفلسطينية خلال تواجده في الأردن، إلا أنه زاد تعلقا وحبا بفلسطين، كما كان متمسكا بحق المقاومة رافضا لاعتداءات الاحتلال، يقول والده  لـ "قدس الإخبارية"، "الصور والفيديوهات التي كانت تنشر على فيسبوك كانت تستفزه كثيرا، وخاصة صور الشهيدات والأسيرات.. وعندما كان يسمع باقتحام الاحتلال قرية دير نظام كان يغضب ويبدأ بالصراخ مطالبا بالعودة الفورية، حتى مرة هددني أنه سيعود وحيدا إذا لم أرتب له ذلك".

وفور عودته، بدأ مصعب شراء الخيوط بمصروفه اليومي البسيط  وصناعة "المقاليع"، "في حديقة المنزل كان يفتح ورشة صناعة مقاليع له ولأصحابه.. كنت أقول له اشتريت بمصروفك الخيوط وبقيت بالجوع، فكان يرد أن ذلك ليس مهما فهو يعود للمنزل ويأكل"، يعلق والده.

كان بال مصعب مشغولا دائما بالمقاومة، حتى أنه كشف لمن حوله أمنيته باختطاف جندي ومبادلته بالأسير حذيفة التميمي أحد أسرى قريته، الذي يتمنى أن يراه ويقابله رغم عدم معرفته به.

يضيف والد مصعب لـ "قدس الإخبارية"، أنه "قبل أيام جلست وإياه، أخبرني يحب أن يكون رحيله عن هذه الدنيا بالشهادة، وهي كلمة يكررها يوميا في المنزل.. لم أخذ كلامه على محمل الجد، حذرته أن قوات الاحتلال لا تطلق النار لتقتل فقط، بل لتلحق إعاقات أيضا بالشبان"، فرد مصعب مشيرا إلى نصف عنقه، "أريد رصاصة هنا، تقطع نفسي واستشهد فورا".

الثاني من كانون ثاني، تحديدا قبل يوم من استشهاد مصعب، داهمت وقوات من جيش الاحتلال منزله فجرا، التقطت الصور له بعد أن قيدته، دفعه أحد جنود الاحتلال إلى الحائط وهمس في إذنه مهدداً، "أنت أبو الأحمر.. راح أفرجيك"، في إشارة إلى قميصه الذي اعتاد أن يرتديه بالمواجهات.

احتفل جنود الاحتلال بإطلاق النار على مصعب، فحسب شهود عيان أنه فور سقوط مصعب مصابا عانق الجنود بعضهم بعض مهنئين أنفسهم، وبعد إعلان استشهاده اقتحموا القرية وأدوا رقصات أمام المسجد محتفلين بقتلهم مصعب.

بسمة لا تغيب عن وجهها، بهدوء وصبر، "كان لدي أربعة أبناء، وما زال لدي أربعة" تقول دينا والدة الشهيد مصعب، وهو الطفل الأول الذي رزقت به قبل 16 عاما ونصف، ابن مجتهد في دروسه، خلوق بتصرفاته، اجتماعي مع من حوله، قدوة لأقرانه، "كان يحب الشعر كثيرا، ويحلم أن يصبح شاعراً.. كان يطمح أن يدرس أدب عربي، وأحيانا كان يخطط لدراسة إدارة الأعمال".

مصعب فقد هدوءه الذي اعتاد الجميع عليه، مذ قرار ترامب الذي أثار غاضبه، تشرح والدته لـ "قدس الإخبارية"، "كنت أتصل عليه أوصيه وأتوسل إليه أن يبقى بعيدا فكان يخبرني أنه بالحديقة ولا يشارك بالمواجهات.. وما أن أرى الفيديوهات التي كانت تنشر كنت أجده في مقدمة الشبان".

رغم أن مصعب كان يعترف لأصدقائه دائما أنه بطيء بالركض ويطلب منهم أن يسبقوه، إلا أنه كان دائما في المقدمة، فمن مبادئ مصعب، الثبات الثبات وعدم الهروب، يعلق فراس "مصعب صاحب شخصية قيادية، هو محور اهتمام أقرانه وأصحابه الذين يلتفون حوله ويقتدون به".

رغم الألم الكبير الذي حل على دينا وفراس لفقدانهما ابنهما البكر، إلا أن ذلك لم يكن صادما لهما، فدائما كان لديهما شعورا بفقدان أحد أبنائهم شهيدا، "كنت أحس أن أحد ابنائي سيستشهد.. عندما أطلق النار على مصعب، كنت أصلي، نهضت مسرعة وخرجت وأنا ميقنة أن الرصاص أصاب واحدًا منهم".

 

لم تبلغ دينا باستشهاد مصعب فورا، وقد أخبرتها العائلة أن إصابته بالكتف، "بطريقي إلى المشفى نظرت إلى السماء، فكان فيها غيمة صغيرة جدا أشرت إليها وقلت هذه روح مصعب.. الله ابتلاني ولكن منحني الصبر والقوة".

تتابع دينا، "استشهاد مصعب هو فخر لي.. فقد الولد البكر صعب ولكني واثقة باختيار الله لمصعب ليكون شهيدا بعد أن شممه رائحة الجنة... بعد ستة أيام على استشهاده دمه العالق بالسيارة رائحته عطر، وهل يوجد فخر أكثر من ذلك؟"

أمام منزل عائلة الشهيد مصعب تجثم مستوطنة حلميش، يشير فراس، "هذه الأراضي كان أطفالنا يلعبون فيها قبل فترة تم ضمها للمستوطنة، أما عين خالد التي كنا نرسل أطفالنا ليسبحوا فيها، أصبح محرم علينا دخولها وباتت مرتعا للمستوطنين وأبنائهم فقط.. هذا جيل النار مشتعلة بصدوره والاحتلال يوميا يضيق عليهم".

مصعب كان ينظر يوميا إلى المستوطنة ويتمنى أن يستيقظ يوما ولا يراها، "كان حلم مصعب أن يصحو يوما من النوم ولا يجد المستوطنة في مكانها، كانت تستفزه ودائما يسألني كيف كانت الحياة قبل أن تقام هذه المستوطنة".