ألقى الرئيس محمود عبّاس لمدة حوالي ثلاث ساعات خطابًا في افتتاح المجلس المركزي، غاص فيه في التاريخ، ومرّ مرورًا عابرًا في الحاضر، وتجاهل المستقبل، إلى حد كبير، تجاهلًا يكاد يكون كاملًا.
الجزء الجيد في خطاب الرئيس أنه أكد أن "إسرائيل" مشروع استعماري يهدف إلى تجزئة المنطقة، وأنه لن يقبل صفقة القرن لأنها صفعة القرن قائلًا "يخرب بيتك" في إشارة إلى ترامب، ولعن الأموال وأشار إلى رفضه مقابلة السفير الأميركي في تل أبيب، وهدد بضرب نيكي هالي بألعن من الحذاء الذي هددت باستخدامه ضد من يقف في وجه "إسرائيل".
وجدّد الرئيس رفضه أن تكون الولايات المتحدة وسيطًا، وطالب برعاية متعددة لعملية التسوية. وهدد بقطع العلاقات مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" أو تنقل سفارتها إليها. وأضاف، "لن نرتكب أخطاء الماضي، وإسرائيل أنهت أوسلو فلن نلدغ من الجحر مرتين"، مع أنه قال مازحًا "لقد لدغنا مرات ومرات"، ما يتطلب إعادة النظر في العلاقة معها، وأننا لن نقبل باستمرار السلطة بلا سلطة، وباحتلال غير مكلف لـ"إسرائيل".
وأكد مواصلة اللجوء إلى المؤسسات الدولية، بما فيها مجلس الأمن للحصول على العضوية الكاملة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والانضمام إلى المزيد من المنظمات الدولية، والسعي إلى الحصول على اعترافات جديدة بالدولة الفلسطينية. وشدد على تمسكه ببرنامج المنظمة المقر العام 1988، وخصوصًا هدف إقامة الدولة على حدود 1967، ورفضه للعرض بأن تكون أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية، والتطبيع مع إسرائيل أولًا، رغم أن هناك عرضًا ماليًا قدم له ثلاث مرات ليقبل بقلب مبادرة السلام رأسًا على عقب، مؤكدًا دعمه للمقاومة الشعبية السلمية والمصالحة التي "ليست واقفة ولا ماشية وبحاجة إلى جهد كبير". وأخيرًا، أكد على عقد المجلس الوطني وتفعيل منظمة التحرير ونفضها من دون أن يوضح متطلبات ذلك، ما يجعل هناك خشية من عقد المجلس الوطني بنفس الشاكلة التي عقد بها المجس المركزي.
أما الجزء السيئ في خطاب الرئيس فيتمثل بأنه كان غاضبًا وعاتبًا وساخرًا، كما كان حائرًا ويائسًا من إمكانية تحقيق حلمه في تجسيد الدولة، وترك الباب مواربًا ولم يحرق جميع الجسور، كما يتضح من خلال عدم اتخاذ إجراءات عملية، بمستوى الحاجة والمخاطر، للعديد من القضايا.
المعضلة الأساسية في خطاب الرئيس أنه لم يطرح رؤية شاملة تستند إلى مراجعة التجربة السابقة، وتصل إلى تقديم بديل متكامل، إذ أشاد بأوسلو لأن إسرائيل اعترفت فيه بالمنظمة ممثلًا للشعب الفلسطيني، متجاهلًا ما انتهى إليه من ثورات، والفرق الجوهري بين الاعتراف بدولة مقابل الاعتراف بمنظمة تمثل شعبًا.
وإذا كانت إسرائيل مشروعًا استعماريًا، فالنتيجة التي وصلت إليها التسوية حتمية، وليست نتيجة حظ عاثر أو أسباب مجهولة حتى نبقى متعلقين بأذيال التسوية عن طريق المفاوضات الثنائية أو المتعددة الشكلية، والتمسك بنفس الخيار رغم وصوله إلى الكارثة. فالمشكلة أن المقدمات التي طرحها الرئيس لا تنسجم مع النتائج التي انتهى إليها، وأن الكثير من التهديدات والخيارات التي طرحها مطروحة منذ سبع سنوات من دون تطبيق، أو بتطبيق جزئي أو انتقائي يحولها إلى تكتيك لتحسين شروط الاستمرار في نفس الخيار.
كما تظهر الحيرة وغياب البديل من خلال قول الرئيس بأن الفلسطينيين حصلوا على 86 قرارًا صادرًا من مجلس الأمن وعلى مئات القرارات من الجمعية العامة لصالح قضيتهم من دون تنفيذ أي منها. وتساءل: "طيب، لمين نشتكي ووين نروح"؟ مضيفًا: أن لا حل لديه، وطالب المجلس المركزي بإيجاد الحل.
"هنا الوردة فلنرقص هنا" .. كان من المفترض أن يركز خطاب الرئيس واجتماع المجلس المركزي واهتمام مختلف القوى والمجموعات وأفراد الشعب الفلسطيني على البديل، وإذا لم يكن متوفرًا يجب بناؤه، وإلا فلا مفر من المراوحة في نفس المكان، وإعادة إنتاج سياسة البقاء، والانتظار والمراهنة على تسوية لن ترى النور، وهي سياسة معتمدة كليًا طوال عهد أبو مازن، وقد ثبت بالتجربة أنه يرفض الاستسلام، ولكن هذه السياسة لم تطرح بديلًا قادرًا على تحقيق الأهداف والحقوق، حتى على مستوى دحر الاحتلال وتجسيد الدولة من دون بقية حقوق الشعب الفلسطيني، فضلًا عن أنها غير قادرة على الحفاظ على الوضع الراهن على سوئه، فهو وضع يتدهور باستمرار، ومرشح لتدهور خطير غير مسبوق إذا لم تتوفر القناعة من الرئيس والقيادة والقوى المتحكمة بالقرار الفلسطيني، بما فيها حركة حماس، بتغيير جذري للمسار، وإذا لم تظهر قوى أو متغيرات جديدة قادرة على تغيير المسار.
بعض الأدلة يمكن إيرادها على غياب الرؤية والبديل أن الرئيس طالب المجلس بإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، ولكنه لم يوضح كيف، وماذا يقصد، وهل يكون ذلك كما مفترض عن طريق وقف الالتزامات المترتبة على أوسلو، وخصوصًا التنسيق الأمني، وتغيير وظائف السلطة، أم أنّ المطروح هو إحالة الأمر للجنة التنفيذية للبدء بتنفيذها كما أوصت به اللجنة السياسية المكلفة بالتحضير للمجلس المركزي، حيث قدمت توصيات مبهمة، مثل تعليق الاعتراف بإسرائيل حتى تعترف بالدولة الفلسطينية من دون توضيح ماذا يعني ذلك، وكيف سيتحقق، وهذا تهرب من الإقدام على سحب الاعتراف بإسرائيل.
وهناك مسألة أخرى ملفته للنظر تستنتج من عدد من التوصيات، تتمثل بأن اللجنة التنفيذية تلقي الكرة للمجلس المركزي الذي يعود بإلقائها إلى اللجنة التنفيذية بحيث لا نعرف أن التوصيات للتطبيق، أم للبدء في التطبيق، أو لدراسة الوقت الملائم لتطبيقها. طبعًا، هذا الالتباس والتردد مقصود ومفهوم كونه نابع من العجز وعدم توفر القناعة العميقة بالتغيير والإرادة لتحمل ثمن اعتماد خيارات تناسب الحديث عن عدم قبول سلطة بلا سلطة وإنهاء حالة الاحتلال غير المكلف.
ويظهر التناقض والارتباك واضحًا وضوح الشمس في حديث الرئيس عن قطع العلاقات مع الدولة التي تعترف أو تنقل سفارتها إلى القدس، إذ يتجاهل أن إدارة ترامب فعلت الأمرين ولم يتم قطع العلاقات معها.
مفهوم صعوبة مواجهة أميركا وإسرائيل، خصوصًا مع موقف عربي ضعيف، ولا يريد أي مجابهة مع أميركا، بل يستعد أطراف منه لعقد تحالف مع إسرائيل ضد إيران، وهذا بدا في غضب الرئيس من العرب في أكثر من مكان في خطابه.
لا يمكن خوض مواجهة طويلة وحاسمة من دون رؤية شاملة جديدة تبني بديلًا متكاملًا، ومن دون إرادة مستعدة لدفع الثمن وخطة ملموسة يمكن تحقيقها. الشيء الوحيد الذي بيدنا وإمكانية التأثير عليه أقل من غيره لم يقدم الرئيس ما يدعو للاطمئنان حوله، وهو إعطاء الأولوية للوحدة، بل لقد استمعنا لأقوال من قيادات لا ترى أن هناك علاقة بين مواجهة القرار الأميركي والوحدة الوطنية، مع أن خوض مواجهة والانتصار فيها لا يمكن من دون إعطاء الأولوية للوحدة (وحدة الشعب والفصائل والقيادة)، على أساس برنامج وطني كفاحي ومشاركة تعددية حقيقية تسعى لتغيير موازين القوى، بما يمكن من دحر الاحتلال.
لقد اكتفى الرئيس بترديد خطته المعروضة سابقًا للمصالحة التي ترتكز على تمكين الحكومة، وهي لن ولم تفتح طريق المشاركة، وإنما الإقصاء والاحتواء كما لاحظنا منذ توقيع اتفاق القاهرة الجديد. وأعرب كذلك عن انزعاجه الشديد من مقاطعة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، متجاهلًا أن الاجتماع عقد في أرض محتلة، وليس في أرض محررة أو ذات سيادة، وعقده في غزة أو في إحدى العواصم العربية رغم كل الضغوط والأثمان المُحتملة لا يمكن مقارنتها بما يقوم به الاحتلال، إذ لن يتمكن الكثير من المدعوين لحضور الاجتماع من حضوره مباشرة بسبب رفض الاحتلال، ولم يترافق ذلك مع عرض خيار الفيديو كونفرنس بين رام الله وبيروت وغزة، ولا المطالبة من الفصائل باستخدامه حتى لا تشكل سابقة، فهي تقاطع أو تحضر الاجتماع في رام الله، وترفض أو لا تطالب بالربط الإلكتروني. فالحضور في الاجتماع التاريخي المدعو لاتخاذ قرارات مصيرية لا يجب أن يكون رمزيًا وعلى مستوى أقل من الأمناء العامين والقيادات البارزة.
ورغم الحجج الوجيهة للمقاطعة إلا أن الحضور، ولو رمزيًا، إذا جاء مسلحًا برؤية وموقف جريء وواضح يمنع لعب دور شاهد الزُّور الذي يمارسه الكثير من الحضور، كان سيكون أفضل وأنجع بكثير، وخاصة أن الاجتماع يعقد في ظرف تجري فيه مصالحة، ولو شكلية، وفي وقت حساس تتعرض فيه القضية لأخطار غير مسبوقة، واتخذت فيه القيادة موقفًا مرضيًا يستحق الدعم، مع أنه ليس كافيًا، وأقل من المطلوب بكثير، ويمكن التراجع عنه، ولكنه يمكن أن يتطور ويُبنى عليه، خصوصًا إذا تصرفت مختلف الأطراف بمسؤولية، ولأن الأخطار ستتعاظم والانخراط الفلسطيني بتصفية القضية ليس سهلًا على الإطلاق، وهو ينطوي على قدر من التحدي بما يمكن من اعتباره أضعف الإيمان، مع أنه بالنسبة للقيادة أشبه بالعمل الانتحاري.