ثلاثة أسابيع مرت على قرار ترامب الاستفزازي، ولم تندلع “انتفاضة ثالثة” بعد في القدس والضفة الغربية ... ثمة حالة اشتباك متفرقة ومتقطعة، وهبة شعبية تتفاوت حدتها من مكان لآخر، وتضحيات باسلة على خطوط التماس مع الاحتلال في شطري الوطن المحتل والمحاصر، لكن من الصعب القول أن مقاومة الشعب الفلسطيني قد دخلت مرحلة “الانتفاضة” تأسيساً على ما حصل في العامين 1987 و2000.
لم يتبدد زخم التحركات الشعبية حتى الآن، ولم يغلق باب الاحتمالات بعد، والرهان ما زال معقوداً على تصعيد المواجهة الشعبية مع الاحتلال، لكننا نخشى حالة التراخي والاسترخاء التي بدأت تصيب بعض الأوساط الرسمية الفلسطينية، سواء بفعل “ترهل” الجهاز البيروقراطي للسلطة وشيخوخة القيادة والمؤسسات، أو استجابة لضغوط ما فتئ الإعلام يكشف عن بعض فصولها، خصوصاً من قبل بعض العواصم العربية التي أظهرت “لا مبالاة” ظاهرة في التعامل مع ملف القدس.
ولولا تصريحات صدرت مؤخراً عن يحيى السنوار، مسؤول حماس في القطاع، لنسينا موضوع المصالحة الوطنية، الذي راهنا وراهن غيرنا، على اكتسابه زخماً إضافياً جراء القرار الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها ... السنوار وفي تصريح مفعم بالرياضيات، قال إنه لم يتبق من المصالحة سوى خمسة بالمائة منها، والوساطة المصرية تراجعت بنسبة ثمانية وتسعين بالمائة، ولولا رسائل “واتس آب”، لغاب الوسيط المصري كلياً عن السمع.
الملفات المعلقة بين رام الله وغزة، ما زالت عالقة، وحماس والجهاد لم تستجيبا رسمياً بعد، لدعوة المشاركة في اجتماعات المجلس المركزي لمنظمة التحرير، ورئيس الحكومة الفلسطينية، لم يعاود الاتصال بحماس بعد مغادرته لغزة إثر زيارة قصيرة مؤخراً كما قال السنوار، ومعبر رفح ما زال على حاله، يُفتح سويعات ويُغلق أياماً وأسابيع، أما حكاية موظفي حماس و”تمكين الحكومة”، والأجهزة الأمنية وغيرها، فما زالت تنتظر معجزة لمعالجتها وتجاوزها.
التسريبات عن اجتماعات “مركزي” المنظمة بعد أقل من أسبوعين، لا تبدو مبشرة ومشجعة ... نحن هنا لا نتحدث عن استراتيجية جديدة، بل عن إجراءات لا أدري إن كان لها من مغزى، خارج الإطار المعنوي، في حين تبدو القضية الفلسطينية في منعرجها الجديد، بحاجة ماسّة لتفكير استراتيجي جديد، و”ثورة من داخل الثورة”، تضع حداً للترهل والفساد والركود والشيخوخة وتعطيل الطاقات الشابة، وتعيد بث الروح في جسد منظمة التحرير وتفجر طاقات الشعب الفلسطيني، الذي يظهر دائماً، جاهزية منقطعة النظير على المقاومة والصمود والاستمساك بحقوقه الوطنية المشروعة.
في تفسير هذا “التراخي”، يبدو أن للأمر صلة بجهود تبذل لإقناع السلطة التزام ضبط النفس، وتفادي الصدام الأخطر مع إدارة أمريكية يتسم أداؤها بالرعونة الشديدة، ووفقاً لبعض من كبريات الصحف الدولية، فإن هذه الضغوط، تأتي مصحوبة بتهديدات فجّة، تصدر عن عواصم عربية... صحيح أن القيادة الفلسطينية لم ترضخ حتى الآن لهذه الضغوط ولم تنحن لتلك التهديدات، وربما تحت ضغط الغضبة الشعبية الفلسطينية، لكن الصحيح أن تجربة السنوات الماضية، تثير القلق من مغبة التجاوب والتساوق مع هذه الأطراف، ودائماً بحجة التشاور والتنسيق مع الأشقاء العرب، وعدم التفرد بالقرار، والتزام الواقعية والعقلانية في الفعل السياسي.
مع أن الطريق المضمونة لمقاومة ضغوط هؤلاء جميعاً، أياً كانوا، ومهما بلغ تأثير أدواتهم المالية والسياسية، يكون بتصعيد الاشتباك مع الاحتلال، وهذه “الوصفة” اعتمدها الراحل ياسر عرفات، عندما كانت تشتد عليه ضغوط الأشقاء في تلك الأزمنة ... الشعب الفلسطيني قادر على فك الحصار عن قيادته، إن أيقنت هذه القيادة، بأن لا بديل لها عن شعبها، وأنه وحده، درعها وسياجها وسيفها.
وثمة ما يشي، أقله وفقاً للمصادر الأمريكية والإسرائيلية، بأن ثمة أوساطاً نافذة في القيادة الفلسطينية وأجهزتها، تعهدت “حفظ الأمن والاستقرار” أياً يكن القرار الأمريكي، وأنها تخشى خروج الشارع عن السيطرة، سيطرتها هي، فلا يعود لها من مبرر لوجودها، وتفقد قدرتها على ادعاء السيطرة والتحكم وتقديم المطلوب منها ... يبدو أن حسابات السلطة تصطدم من جديد، وعلى نحو جلي، مع متطلبات “الانتفاضة” ومقتضياتها، وحتى وإن كان محرك الانتفاضة من الأهمية والرمزية بحجم مدينة القدس؟!...
ويبدو كذلك أن “شهر العسل” بين السلطة والشارع، قد لا يمتد طويلاً، سيما إن قرر هذا الشارع، الخروج على تقليد “التظاهرات المُعلبة” في ساحات رام الله، التي يسعد شيوخ الفصائل و”مستحاثاتها” على تصدر صفها الأول، متشابكي الأيادي أمام عدسات الكاميرات.