تدفقت جماهير غفيرة في مختلف أنحاء العالم إلى الشارع تنديدا بقرار ترامب نقل السفارة، وحملت ترامب كل ما يمكن أن يترتب على قراره من أحداث وردود فعل.
خرجت الجماهير في مختلف البلدان العربية إلا من بعض دول الخليج، متضامنة ومتكاتفة مع الشعب الفلسطيني ومعبرة عن انتمائها العربي والإسلامي والتزامها بالقضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين.
كما أن جماهير العالم لم تبخل بالحراك ضد ترامب وقراره، فخرجوا في أمريكا نفسها، وكوريا وفرنسا وسويسرا وعدد كبير من الدول. لقد أثار قرار ترامب مئات ملايين الناس على اتساع الكرة الأرضية، ودفعهم إلى الوقوف في وجه هذا التطور الذي يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة ومع القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة.
وقد كان في ردود الفعل على القرار ما أحيا القضية الفلسطينية وأعادها إلى صدارة القضايا العالمية. لم يكن أمام الإعلام العالمي أن يتجاهل قرار ترامب وما يسببه من حالة عدم استقرار عالمي، وباشر في ضخ الكثير من المعلومات حول القدس وتاريخ الاحتلال والمقررات الدولية ومواثيق الأمم.
لقد كانت هناك مساهمة كبيرة في توعية الناس عالميا حول القضية والظلم الهائل الذي أوقعته الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني. وقد كان لقرار ترامب وقْع كبير على الساحة الدولية لم تتمكن البلدان العربية والسلطة الفلسطينية من إنجازه على مدى سنوات.
إذا نظرنا بصيغة المقارنة بين الحراك الجماهيري ومواقف الرسميين سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي أو الإسلامي نجد أن الهوة كبيرة بينهما. الحراك الجماهيري متقدم جدا على مواقف وردود فعل السلطات الرسمية.
كان يأمل فلسطينيون كثر بأن تسحب السلطة اعترافها بالكيان الصهيوني، وتلغي اتفاقية أوسلو، وتتوقف عن التطبيع الجماهير غاضبة ومحتقنة ولديها رغبات قوية لحماية القدس والمقدسات والاستعداد للتضحية والفداء، أما الرسميون فمترددون خائفون ومتحفظون، ولا تكاد عبارات الاستنكار والاستهجان والإدانة تخرج من أفواههم.
وهذا ليس بالأمر الغريب على الحياة السياسية العربية إذ نجد على الدوام تقدم عموم الناس في مواقفهم الوطنية والقومية على السلطات الرسمية والحكومات ورؤساء الدول، بل نجد أحيانا أن الرسميين يشكلون عوامل كبح وإحباط للجمهور ولو على حساب الحقوق.
على المستوى الفلسطيني، صدر أول رد فعل عن وزير خارجية السلطة أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب والذي أكد على أن السلطة الفلسطينية مستمرة فيما أسماه بالعملية السلمية، والتي ثبت فشلها وعبثيتها على مدى أكثر من عقدين من الزمن.
وقد كان في تصريحه هذا ما يتحدى مواقف ومشاعر الفلسطينيين الذين استشاطوا غضبا من قرار ترامب. كره الفلسطينيون المحادثات المستمرة بين الفلسطينيين والصهاينة، وأدركوا أن هذه المحادثات ما هي إلا إحدى أدوات الصهاينة في تنفيذ مخططاتهم تحت شعار البحث عن السلام.
ثم أتبع وزير الخارجية رد فعله بموقف آخر يقول إن السلطة لن تستمر في طلب وساطة الولايات المتحدة لأنها ليست وسيطا نزيها. وكرر هذا الموقوف رسميون فلسطينيون آخرون. وهذا موقف يتمشى مع تطلعات الجمهور، لكنه لا يرتقي إلى مستوى الحدث.
كان يأمل فلسطينيون كثر بأن تسحب السلطة اعترافها بالكيان الصهيوني، وتلغي اتفاقية أوسلو، وتتوقف عن التطبيع وإقامة علاقات مع الصهاينة، وتطلق أيدي الشباب ليصنعوا ما يرون مناسبا في مواجهة الصهاينة والأمريكيين.
لم يحدث شيء من هذا، وكرست السلطة سلوك التطبيع عندما طلبت من العرب الاقتداء بالوفد البحريني الذي جاء إلى فلسطين مطبعا ومنعه الناس من دخول المسجد الأقصى، وحرمته المقاومة من دخول غزة. لقد تحدى المستوى الرسمي الفلسطيني مشاعر جماهير الناس وتطلعاتهم.
على المستوى العربي، لم يكن الوضع أفضل. أصدر وزراء خارجية العرب بيانا هزيلا خاليا من المضمون ومن الإصرار على الحقوق. كان بإمكان دول مثل سوريا والجزائر وتونس والعراق ولبنان أن تسحب اعترافها بالمبادرة العربية الصادرة في بيروت عام 2002. وهذا أضعف القتال في وجه العدو.
في اللقاء العربي، هناك ثلاث جهات تقيم علاقات ديبلوماسية مع الصهاينة وهي السلطة الفلسطينية والأردن ومصر، وهناك دول عدة تطبع مع الصهاينة وتنشد التحالف معهم. لم يجرؤ أحد في اجتماع الجامعة العربية على تحدي هذا السلوك المتناقض تماما مع التباكي على القدس.
لقد كان واضحا زيف الإدانات العربية والاستنكارات، ومدى الكذب الذي تحمله على الناس. من يغضبه قرار ترامب عليه أن يُغضب ترامب لا أن يؤكد له أن المواقف من الكيان الصهيوني ثابتة مهما أغضبت الناس.
على مستوى الدول الإسلامية، كان بيانها الصادر عن اجتماعها في اسطنبول هزيلا أيضا، وبقي دون التطلعات الجماهيرية، ولم يتماشى مع غضب الشارع العالمي والإسلامي على حد سواء.
وعد السيد رجب طيب إردوغان بقطع العلاقات مع الصهاينة إذا نفذ ترامب وعده للصهاينة. ترامب نفذ وإردوغان لاذ بالصمت.
أما إيران فلم تتحفظ على البيان، ولم نسمع لها صوتا ناقدا لما اتفق عليه المسلمون. وربما كان مادورو هو البليغ الوحيد في المؤتمر إذ قطع كل تلك المسافة من فنزويلا إلى بيروت ظنا منه أن سيرى العديد من البوليفاريين العرب والمسلمين . لقد خيبنا ظنونه.
على مستوى آخر كان بإمكان دول مثل سوريا والجزائر وتونس والعراق ولبنان أن تسحب اعترافها بالمبادرة العربية الصادرة في بيروت عام 2002. وهذا أضعف القتال في وجه العدو.
لكي تستمر حركة الجماهير في شوارع العواصم العالمية، لا بد من تغذيتها من قبل السلطات الرسمية. المفروض أن تتخذ السلطات الرسمية قرارات شجاعة تصنع أزمات للصهاينة والأمريكيين وتحرض الناس على الاستمرار في حراكهم.
المواقف الحكومية تشد من أزر الناس، وتمدهم بالثقة بأن المستوى السياسي الرسمي لن يخذلهم، وسيسير معهم بذات الحدة حتى إسقاط قرار ترامب.
أما إذا تقاعس المستوى السياسي كما نرى الآن، وجبن وانزوى، فإن الناس سيفقدون قوة الدفع التي لديهم، وسيشعرون بالإحباط وعدم الجدوى.