بعد مضي أكثر من أسبوعين على إعلان ترامب القدس عاصمةً للعدو، لا زال الحراك الشعبيّ مستمراً ضدّ هذا الإعلان، وذلك على الرغم من كون المجتمع الفلسطيني وخاصة المقدسي، منهكاً من إجراءات العدو القمعية والتي يساندها الدور الوظيفي الأمني لسلطة الحكم الذاتي المحدود.
مرةً أخرى، يُثبت المجتمع الفلسطيني أنه لا زال قادراً على المواجهة بما تيسر له من سبل، ومستمراً في هبته الشعبية المتواصلة منذ سنواتٍ ثلاث، هذه الهبة التي اتخذت شكل الموجات النضالية المتتالية، وجمعت ما بين ما بين الفعل الجماهيري والعمل المقاوم "الفردي". يمكن القول بإن حجم واستمرارية ردة الفعل الجماهيرية لم تكن متوقعة عند العدو، حيث راهن العدو على اضمحلالها بعد يوم الجمعة الأول التالي للإعلان.
ونحن على أبواب الأسبوع الثالث من الحراك الشعبي، من المهم التأكيد على النقاط التالية:
أولاً: إنٰ اعلان ترامب القدس عاصمةً للعدو، ما هو إلا إطلاقٌ فعليٌّ "لعملية استراتيجية"، كما سماها السفير الأمريكي في تل أبيب "ديفيد فيردمان"، والتي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، ابتداءً بحسم مصير القدس بإعلان يهوديتها، وصولاً إلى إسقاط حق العودة وتصفية الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 عن طريق الاعتراف بيهودية "إسرائيل". وما تبقى فهي ترتيبات لوجستية وإدارية وأمنية يجري التوافق عليها برعاية سعودية-خليجية ضمن خطة ترامب للسلام، والتي سيعلن عنها في النصف الأول من العام القادم 2018.
تلعب السعودية وحلفاؤها دوراً محورياً في هذه الخطة، وذلك اتساقاً مع رؤية ترامب في وثيقة الأمن القومي لأمريكا والتي صدرت قبل ثلاثة أيام والتي تشير إلى حلٍّ سياسيٍّ للقضية الفلسطينية في سياق الحلف السعودي- الصهيوني في مواجهة إيران وامتداداتها في المنطقة.
ثانياً: لا يمكن التعويل على موقف قيادة السلطة الفلسطينية في مواجهة هذه العملية التصفوية، ولا يمكنها الذهاب بعيداً أكثر من تسجيل موقف، فهي لن تكون، ولا تقدر إلا أن تكون-ولو على حساب شعبها- جزءاً من التحالف الصهيوني الخليجي، بل يمكن للدور السعودي بما يمثله من ثقل أن يقدم غطاءً وتبريراً لهذه القيادة بالانخراط في هذه العملية، حفاظاً على دورها الأمني الوظيفي وخاصة في ظل وجود بديل يحظى بدعم خليجي وصهيوني.
في الحقيقة، إنّ قرار ترامب ما هو إلا النهاية المنطقية لمسار التسوية الأمريكي الذي فرضته هذه القيادة بالحديد والنار خياراً وحيداً للشعب الفلسطيني.
وأما بالنسبة لشعار"القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" الذي ترفعه السلطة وكثير من العرب، فإنّ من أعاد تعريف فلسطين لتصبح أقل من ثلث الضفة الغربية، لن يكون عاجزاً أن يُعرّف "القدس الشرقية" بحيٰ من أحيائها، وبهذا فإن من يطالب بـ"القدس الشرقية" عاصمةً يعلن بشكل صريح عن موافقته على تصفية القضية الفلسطينية والتفريط بكل فلسطين. يافا تعصم القدس بمنطق الجغرافيا، والقدس تعصم يافا بمنطق التاريخ.
ثالثاً: في مواجهة وصول عملية تصفية القضية الفلسطينية إلى مرحلة الحسم، لا بدَّ لنا من الاستمرار في حراكنا الشعبي وتجذيره عبر: تحويل عنوانه من رفض قرار ترامب إلى مقاومة تصفية القضية الفلسطينية، وتدعيمه تنظيمياً ببناء أُطرٍ ولجانٍ شعبيةٍ تمنح هذا الحراك الاستمرارية، ويُشكِّل حالةً نضاليةً تغطي كافة الوجود الفلسطيني المهدد بكليته.
رابعاً: لعلّ أحد أهم مخرجات الحراك الشعبي ضدّ قرار ترامب، هو عودة القضية الفلسطينية إلى الشارع السياسي العربي، وهنا تكمن محورية مقاومة التطبيع فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، مدخلاً عملياً، وعنواناً نضالياً لتعميق هذه العودة وإعطائها صفة الاستدامة، فالتطبيع يُمثِّلُ الأداة العملية في بناء التحالف العربي الصهيوني لتصفية قضيتنا الوطنية، ومقاومة التطبيع، كممارسة نضالية، قادرة على خلق حالة تجمع ما بين النضال في فلسطين والنضال في محيطنا العربي والإسلامي، ضدّ الإمبريالية الأمريكية والحلف الصهيوني الخليجي.
خامساً: إنّ اختزال قضية القدس إلى قضية مقدسات وحرية دينية، يشكل مدخلاً خطيراً إلى تمرير قرار ترامب بشأن القدس وتهويدها، حيث يمكن الوصول إلى ترتيبات تحافظ على هذه الحرية بعد نزع البعد السياسي الوطني عنها. وكان قد أوصى خبراء الأمن القومي الصهاينة بعد هبة باب الأسباط، بأن تقوم حكومة العدو بتوسيع الوصاية الإسلامية على المسجد الأقصى بحيث تشمل دولاً إسلامية وازنة (السعودية) بحيث تقوم من خلال هذا الدور بالمساهمة في الحفاظ على الأمن في منطقة المسجد، ويشكل هذا الدور مدخلاً سياسياً في عملية التسوية.
جاء قرار ترامب، في الذكرى الـ100 لوعد بلفور واحتلال القدس من قبل الإنجليز، وبعد ما يقارب 25 عاماً من "وعد أوسلو"، إعلاناً بانطلاق قطار تصفية القضية الفلسطينية من القدس إلى محطته الأخيرة. ليست تلك معركةً سهلةً، بل ومن النزاهة القول بأنٰ التشاؤم في هذه الحال شعورٌ مبررٌ، والتفاؤل انفصالٌ عن الواقع، ولكن في المسافة ما بين التفاؤل والتشاؤم تمتدُ ساحة النضال لنفي أحدهما.
المصدر: باب الواد