الشعب الفلسطيني تاريخياً شعب مضحي، ومنذ بداية الغزوة الصهيونية، خاض الكثير من الثورات والهبات الشعبية والجماهيرية، نتذكر منها ثورة النبي موسى 1920، يافا 1921، البراق 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى 1936، وإنتفاضة الحجر في 7/12/1987، ومن ثم انتفاضة الأقصى عام 2000، والهبات الشعبية المتلاحقة منذ هبة الشهيد الفتى أبو خضير تموز /2014، وحتى اللحظة الراهنة.
نشهد هبات شعبية وانتفاضية متلاحقة تعلو حيناً وتهبط حيناً آخر إرتباطاً بحالة القمع والتنكيل التي تتعرض لها الجماهير الفلسطينية، ونتاج لسياسات وممارسات الإحتلال بكل تمظهراتها عسكرية واقتصادية وامنية وشرطية وغيرها، وما يرتبط بها من "توحش" و"تغول" استيطاني وتطهير عرقي.
وما يتفرع عن ذلك من ممارسات يومية تطال مختلف مناحي حياة المقدسيين اليومية عبر سياسات ممنهجة، واعتماد سياسة اسرائيلية قائمة، على أساس منطق البلطجة والعنجهية، شعارها وعنوانها الفلسطيني الذي لا يخضع بالقوة، يخضع بالمزيد منها، ومقابل هذا العامل الموضوعي الناضج للتحول نحو انتفاضة شعبية شاملة، نجد بان العامل الذاتي الفلسطيني، هو الكابح لصعودها وتأطيرها وتنظيمها، ورسم هدف واستراتيجية واضحتين ومحددتين لها.
الآن نحن أمام تطورات وتغيرات ذات طابع نوعي واستراتيجي، إدارة أمريكية تنتقل من مرحلة الانحياز التاريخي الى جانب دولة الاحتلال الصهيوني، لتنتقل إلى مرحلة الشراكة المباشرة في العدوان على شعبنا، ورغم كل المخاطر الذي يحملها القرار الأمريكي على مدينة القدس وسكانها، من تشريع للاحتلال والإستيطان، وتقويض أسس الشرعية الدولية، التي ولدت دولة الاحتلال قسراً من رحمها.
ولكن هذا المشروع، لا يمكن له أن يشطب لا القدس ولا الأقصى ولا القيامة، وهذا يشكل فرصة تاريخية ونادرة، من أجل إعادة بوصلة العرب والمسلمين نحو مدينة القدس، التي حاول الاحتلال والقوى الإستعمارية تغيبها عن المشهد الدولي، أكثر من مرة، في ظروف عربية وإسلامية وفلسطينية، أقل ما يقال إنها تشهد حالة من التردي والانهيار غير المسبوقين، والدخول في صراعات المحاور والمذهبية والطائفية، فهذا القرار من شأنه إذا ما توفرت إرادة سياسية عربية وإسلامية، أن يحقق مصالحات عربية –عربية وعربية- إسلامية، على قاعدة التوحد على قضية القدس، وعلى نفس القاعدة عقد قمة عربية طارئة عنوانها القدس، فلا عرب ولا عروبة بدون القدس، وشرف الأمة من شرف القدس بقول جبران وزير خارجية لبنان.
هذا القرار الذي جعل قضية القدس مركز الاهتمام والفعاليات والنشاطات والمظاهرات الإحتجاجية المناصرة لها تحتل مركز الصدارة والإهتمام في مختلف دول العالم، أظهر أمريكا بمظهر المعزولة والمحاصرة والخارجة عن القانون الدولي، والمهددة للسلم والإستقرار العالمي، ومجردة قرارات الشرعية الدولية، من أي ثقة أو إحترام بها.
واجب القيادة الفلسطينية أن تستثمر وتستغل هذا القرار، من أجل رفع سقف تحديها لأمريكا، وكما قال السيد نصرالله، إن تعتبر القرار الأمريكي نهاية لما يسمى بعملية السلام، وتستغل هذه الورقة التي تملكها وتعلن الانسحاب من عملية السلام، ولو من باب التكتيك التفاوضي لا كخيار استراتيجي، وأن لا تكون جزءاً من المؤامرة، بل أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض، وإذا ما اتخذوا قرارهم بالثبات والمواجهة، فلا أحد في العالم قادر على الوقوف في وجههم أو فرض أي خيار عليهم.
وموقف السيد نصرالله هذا نابع من تجربة المقاومة منذ العام 1982، في الميدان "الاسرائيلي" والميدان التكفيري، حيث لم يذهب إلى حربٍ إلا وخرج منها منتصراً وهذا يحمل في طياته دعوة للفلسطينيين للاستفادة من تجربة المقاومة وخيارها.
رغم كل ما يحمله هذا القرار من خطر جدي على عاصمة دولتنا الفلسطينية، ومشروعنا الوطني وقضيتنا الوطنية، فلم نجد أي تحرك جدي نحو عقد اجتماعات للهيئات القيادية الفلسطينية لا على مستوى المنظمة ولا السلطة ولا الفصائل، ولا اتخاذ خطوات عملية، تسرع من عمليات إنهاء الإنقسام، اجتماعات من اجل بلورة رؤيا شمولية، تفتح الطريق لمسار جديد يركز على التغيير والتعديل في ميزان القوى بشكل متدرج، مستخدمة كل أشكال العمل والسياسي والكفاحي، بما فيها المقاومة والمقاطعة.
الشعب الفلسطيني يفترض أن يكون رأس الحربة في مواجهة المخطط الأميركي "الاسرائيلي" لتهويد القدس وتصفية القضية الفلسطينية، وكما قال سماحة السيد نصرالله في الكلمة التي ألقاها أول أمس في المظاهرة الضخمة التي خرجت من الضاحية الجنوبية،تلك الكلمة التي استحضر فيها السيد شعار الرئيس ياسر عرفات "للقدس رايحين شهداء بالملايين"، وتذكيره بأن الفلسطينيين سبّاقون في المقاومة والنضال ضد الاحتلال تحمل رسالة واضحة بأن الطريق الأقصر إلى القدس هو المقاومة لا خيار التفاوض الذي سقط مع قرار ترامب بالضربة القاضية.
ما نحن أمامه الآن، هو هبات شعبية متلاحقة، تندلع أغلبها خارج إطار السلطة والفصائل، ضمن عملية عفوية، تلهث الفصائل خلفها، في محاولة لتاكيد حضورها ووجودها فيها، ولذلك ما يجري هو اشتباك انتفاضي مع الإحتلال، عماده حراكات شبابية وقواعد حزبية، ربما جزء منها متمرد على قيادته.
ولكن تحول هذه الهبات الشعبية إلى مشروع سياسي يتجاوز الإنقسام وكارثية أوسلو، لم تلتقطه الفصائل، ولم تنجح في تحقيقه، حتى في ظل الظروف التي وفرتها، هبة باب الأسباط 14 تموز الماضي، فرغم ما حققته من انتصار مستحق على حكومة الاحتلال فيما يتعلق بالبوابات الالكترونية، لم تبنِ الفصائل على هذا الإنتصار.
ولذلك في هذه القضية، قضية القدس، التي تعيد الصراع إلى مربعه الأول، كصراع وجود مع المحتل، حتى ننتقل من الهبات الشعبية التي تعلو حيناً وتهبط حيناً آخر، ارتباطاً بظرف موضوعي ناضج ومتوفرة كل عناصره، لا بد من نضوج العامل الذاتي، هو توفر عوامل ضاغطه قاعدية عليه، تجبر القيادة والفصائل، على اتخاذ مواقف ذات بعد استراتيجي، تفتح مسارات كفاحية ونضالية جديدة، فالانتفاضة تحتاج إلى قيادة موحدة، وكتلة بشرية جماهيرية واسعة مشاركة، وهدف واضح ومحدد، وركائز فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وطنية موحدة، وفي قراءتنا المتواضعة للحالة الفلسطينية الراهنة.
السلطة ليست مؤمنة بالإنتفاضة كخيار، وما زال رهانها على العملية السلمية والمفاوضات، حتى بعد قبر وتأبين ترامب للتسوية وحل الدولتين، وإعلانه القدس عاصمة لدولة الإحتلال، ولذلك تفتقر لعامل الإرادة، وهي غير جاهزة لمراجعة منظومة علاقاتها الأمنية والاقتصادية والسياسية مع الاحتلال وتقدم على بعض الخطوات، في إطار سياسة ردة الفعل وإمتصاص الغضب الجماهيري، وليس وفق رؤية واستراتيجية متكاملتين وموحدتين.
كما أنها غير مستعدة لتغيير دور ووظيفة السلطة والتزاماتها، بما يخدم الكل الفلسطيني والمشروع الوطني ومنظمة التحرير، يكبلها في ذلك بنية سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، نمت من داخلها ومن خارجها في مرحلة الانقسام والاحتلال، تحارب بكل قوتها لمنع التغيير واندلاع انتفاضة، وكذلك تنامي فقدان الثقة بالقوى والفصائل، وخيبات الأمل الشعبي، من إمكانية تحقيق انتصار، في ظل هكذا واقع قيادي وفصائلي، مهلهل ومفكك داخلياً، وحوامله التنظيمية غير قادرة على الإقلاع بهذا المشروع، وكذلك رؤوسه القيادية لا تشكل محط ثقة واحترام الشارع، الذي بات على قناعة أنه فقط يُستثمر خدمة لأجندات ومصالح معينة. ناهيك عن عدم وضوح الهدف الوطني وأشكال النضال المتفق عليها والمؤسسة الجامعة.
ولذلك ممكنات تحول الهبات الشعبية إلى إنتفاضة شاملة، رهن بالموقف الشعبي ومدى قدرته على تشكيل قوة ضغط كبيرة على القيادة والفصائل، لكي تحدث حالة قطع مع خيار ما يسمى بالمفاوضات والعملية السلمية، أي ان تصبح هذه القيادة والفصائل رأس الحربة في مجابهة المشروع الأمريصهيوني، وبما يمكن من تحشييد أوسع اصطفاف شعبي وجماهيري عربي واسلامي وعالمي حول مواقفها، وكذلك إحداث حالة اصطفاف جديدة عربية إسلامية، تخرج القيادة الفلسطينية من عباءة الحلف العربي الأمريكي.