تلقت إدارة ترامب صفعة عالمية مدوية إثر قرارها الأرعن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فكل دولة تحترم نفسها في العالم بما في ذلك الحلفاء التاريخيون للولايات المتحدة كبريطانيا وألمانيا وفرنسا رفضت القرار الأمريكي وأكدت الواحدة تلو الأخرى حق الفلسطينيين في القدس عاصمة لهم.
ولعل العالم لم يشهد منذ فترة طويلة حدثاً مماثلاً أثار هذا القدر من التظاهرات العالمية الاحتجاجية عبر المعمورة بأسرها وخصوصا في الدول الإسلامية والعربية، وكذلك في بلدان أوروبية وفي الولايات المتحدة نفسها، بل أن 60% من الأميركيين أنفسهم عارضوا قرار ترامب حسب استطلاعات الرأي المنشورة.
وفي مجلس الأمن تلقت مندوبة الولايات المتحدة ومعها مندوب "إسرائيل" الصفعة تلو الأخرى، ولم يعبأ أحد بوقاحة المندوب الإسرائيلي الذي هاجم مؤسسة الأمم المتحدة وقراراتها، وهي المؤسسة التي أنشأت "إسرائيل" بقرار منها.
غير أن رد الفعل الأهم برأيي كانت تباشير الانتفاضة الشعبية التي انفجرت في فلسطين في الذكرى الثلاثين لانطلاق الانتفاضة الشعبية المجيدة الأولى.
ورغم إصابة أكثر من ألف ومئتي جريح واستشهاد أربعة شبان، تصاعد لهيب الانتفاضة بمشاركة مئات الآلاف ليرسل رسالة واضحة لترامب، بأن قراره لا يعني شيئاً لشعب متمسك بمدينته المقدسة، ومصمم على تحريرها من الاحتلال والاستيطان والتهويد.
وأنبل ردود الفعل جاءت من القدس نفسها ومن أهلها البواسل في المسجد الأقصى، ومن أزقة البلدة القديمة وفي ساحات باب العامود وأحياء العيسوية وسلوان ورأس العامود وغيرها، حيث توالت تظاهراتهم رغم القمع والتنكيل الإسرائيلي.
مندوبة ترامب في الأمم المتحدة هيلي قالت كلاماً خطيراً خلال جلسة مجلس الأمن وكشفت أن صفقة ترامب لا تقتصر على تصفية حق الفلسطينيين في القدس، بل وعلى تصفية قضيتهم برمتها، وحقهم في إقامة دولة حرة ومستقلة.
فهي ربطت قيام دولة مستقلة أو عدم قيامها بموافقة "إسرائيل"، وذلك يفسر امتناع إدارة ترامب عن ذكر كلمة "الدولة الفلسطينية" أو ما يسمى "حل الدولتين" منذ انتخابها.
تحاول إدارة ترامب الآن امتصاص ردود الأفعال العارمة، كما وتحاول الالتفاف عليها والعودة للحديث عن عملية سلام مزعومة مدعية أن لديها مصداقية مع الطرفين.
ويجب أن لا يسمح لها بذلك. فلا مصداقية لها بعد قرار ترامب مع الفلسطينيين، ويجب ألا يكون لها مصداقية مع العرب والمسلمين قبل أن تتراجع وتلغي قرارها الجائر والمشين.
ولذلك من المحظور أن يعقد أي لقاء فلسطيني مع نائب الرئيس الأمريكي بنس عند زيارته المخططة، ومن المحظور إجراء أي حوار مع فريق ترامب برئاسة كوشنر بعد أن أثبت أنه يعمل بدوام كامل لصالح اللوبي الصهيوني و"إسرائيل".
ولا بد، بعد رد الفعل الشعبي الفلسطيني الرائع، وبعد التظاهرات التي اجتاحت العالم، وبعد مواقف مختلف الدول من النظر إلى ما جرى على أنه فرصة لا تعوض لاتخاذ قرارات جريئة تحررنا من قيود اتفاق أوسلو المريع، ومن التزامات عملية سلام ماتت وتعفنت، ومن اشتراطات وضعت لعرقلة وحدة الفلسطينيين.
آن الأوان للعودة إلى نهج الانتفاضة الشعبية الأولى التي ضيعت نتائجها بسبب اتفاق أوسلو، أي العودة إلى طابعنا وجوهر حركتنا كحركة تحرر وطني تناضل من أجل الحرية والكرامة، وليس سلطة مقيدة بالتنسيق الأمني وضغوط بعض الممولين.
هذه فرصة لخلق قيادة وطنية موحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وهي فرصة لإلغاء التنسيق الأمني بالكامل والتحرر من قيود أوسلو.
وهي فرصة لتعزيز وتوسيع انتفاضة المقاومة الشعبية وتبني حركة المقاطعة وفرض العقوبات على "إسرائيل".
وهي فرصة لإحالة "إسرائيل" فوراً إلى محكمة الجنايات الدولية ولدخول كل منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة وعلى رأسها منظمات الصحة العالمية، والغذاء العالمي، والملكية الفكرية لأنها أكثر ما سيقلق إدارة ترامب ومندوبته في الأمم المتحدة.
وهي فرصة لتحويل القدس إلى قضية عربية وإسلامية وعالمية، ولحشد كل الإمكانيات والطاقات لتعزيز صمود أهلها وتوسيع وجودهم وثباتهم في وجه الاستيطان والتهويد.
لقد رمى ترامب في وجهنا بتحد خطير ونحن قادرون على تحويل ذلك التحدي إلى فرصة عظيمة وغير مسبوقة لنصرة قضيتنا الوطنية وتحقيق أهدافنا.
أما "صفقة القرن" فقد أجهضها صاحبها ترامب بيديه قبل أن تولد، ولا يجب السماح له بأن يعيدنا للحديث عنها بعد كل ما جرى.