نحن ندرك تماماً أن أمريكا وبتوصيفات القائد القومي والوطني الراحل الكبير جورج حبش، هي رأس الحية، في معاداة الشعوب وحقوقها في الحرية والإستقلال والخلاص من الاحتلال والإنعتاق من أنظمة ديكتاتورية تتفنن في قمعها واستغلالها.
السياسة الأمريكية منذ قرار الكونغرس الأمريكي عام 1995 بالموافقة على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب ألى القدس، والذي كان يتأجل كل ستة شهور، هو لم يكن ليحصل "كرمال" عيون شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية والإسلامية، بل الخوف على المصالح والأهداف الأمريكية في المنطقة السبب المباشر في ذلك.
نحن ندرك تماماً أن القوى الإستعمارية الغربية التي زرعت هذا الكيان الغاصب في خاصرة الوطن العربي، تحتضنه وترعاه وتدافع عن كل سياساته وما يرتكب من جرائم وعمليات قمع وتنكل بحق شعوبنا العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة، ولذلك كانت وما زالت منحازة له تاريخياً.
وقد ورثت أمريكا الدور البريطاني في رعاية وحضانة دولة الاحتلال، ولتنتقل الإدارة الأمريكية الحالية من الإنحياز التاريخي للإدرات الأمريكية المتعاقبة إلى جانب الاحتلال الصهيوني في معاداة حقوق شعبنا، والوقوف ضد حريته واستقلاله واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة ما قبل عدوان 5/ حزيران/1967، ألى موقع الشراكة والعدوان على شعبنا الفلسطيني.
فالقرار الأمريكي بإقرار عملية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، لا يحمل المعنى التقني، أو أنه إجراء إداري أو دبلوماسي، بل هو تعبير عن موقف سياسي خطر، يراد به تزوير وتشويه هوية القدس وشرعنة الاحتلال والإستيطان، وتقويض الأسس التي قامت عليها الشرعية الدولية، في خطوة لإقرار البلطجة والزعرنة ومنطق القوة في جواز الإستيلاء على أرض الغير وضمها.
الإدارة الأمريكية في عدوانها على الشعب الفلسطيني مارست ضغوطاً كبيرة على القيادة الفلسطينية من أجل وقف مخصصات الأسرى والشهداء، في عملية ابتزاز وقحة، كما أنها تهدف لوسم نضال شعبنا بالإرهاب، واليوم يأتي مجلس النواب الأمريكي لكي يوافق بالإجماع، على وقف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، إذا ما استمرت بدفع رواتب الشهداء والأسرى، عمليات ابتزاز متواصلة التهديد بإغلاق مكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن، إذا لم تستجب السلطة للشروط والإملاءات الإسرائيلية بالعودة للمفاوضات، وقائمة طويلة من الإبتزاز والتطاول على حقوق شعبنا، لكي تصل هذه الوقاحة مداياتها في قول السفير الأمريكي المتصهين في تل أبيب فريدمان، أن اسرائيل لا تحتل الضفة الغربية، ولمستوطنيها الحق بالإستيطان في أي بقعة على أرض فلسطين... واليوم يأتي هذا التاجر الأمريكي، لكي يتعامل مع أرضنا وقضيتنا وعاصمتنا على أنها صفقة تجارية، وهو يكمل دور بلفور في وعده المشؤوم عندما أعطى من لا يملك لمن لا يستحق.
إن الإدارة الأمريكية ومعها كل من يفكّر في تشويه هوية القدس العربية والإسلامية مدعون إلى قراءة تاريخ الشعب الفلسطيني جيداً منذ ثورة النبي موسى عام 1920، وثورة يافا عام 1921، وثورة البراق عام 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وانتفاضة الحجر 1987، وانتفاضة الأقصى عام 2000، والهبات الشعبية والجماهيرية المتلاحقة، منذ هبه الشهيد الفتى محمد أبو خضير في الثاني من تموز 2014 إلى هبة باب الأسباط في تموز 2017، وغير ذلك من الهبّات والثورات التي اندلعت دفاعًا عن القدس وكلّ فلسطين، فهذا الشعب المكافح منذ 100 عام لن يقبل بالتفريط بحقوقه وعاصمته القدس بشطريها ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، وإنّ أي إهدار لهذه الحقوق سيواجَه بموجة غضب عارمة تشبه تلك الثورات التي هي فخر التاريخ الفلسطيني،وخياره لحماية حقوقه.
نحن ندرك تماماً أن هذه الإدارة الأمريكية المتصهينة، تعيش سلسلة أزمات داخلية، منها قضية التدخل الروسي في الإنتخابات الأمريكية، وبما يهدد مستقبل ترامب السياسي، وكذلك ملكية اللوبيات ورجال المال اليهود لكبرى وسائل الإعلام الأمريكية، والذين يحتاجهم الرئيس المتصهين ترامب لتخفيف الضغوط عليه، وكذلك حكومة نتنياهو ونتنياهو نفسه، يعيش سلسلة من الأزمات نتاج لمسلسل فضائح الفساد والرشاوي، الذي قد يقوده إما للمحاكمة والسجن، أو التخلي عن السلطة عبر تقديم موعد الإنتخابات.
ولذلك هما يدركان جيداً أن هذا هو الظرف المؤاتي لطرح هذا المشروع، فالحالة العربية في حالة إنهيار غير مسبوقة ومشتبكة مذهبياً في حروب تدمير ذاتي، وانتقال جزء من النظام الرسمي العربي إلى مرحلة العلنية والشرعنة في تطبيع علاقاته مع المحتل، ولتصل إلى مستويات متقدمة من التنسيق والتعاون والتحالف، والقبول في دولة الإحتلال كمكون طبيعي في المنطقة على حساب حقوق شعبنا الفلسطيني، ولعل ما حدث في القمة العربية – الإسلامية - الأمريكية في العشرين من أيار الماضي، شكل نقلة غير مسبوقة في مستوى إنهيار وتردي الحالة العربية، التي قبلت بالإصطفاف العربي- الإسلامي خلف "إمامة" ترامب لها، ودفع مئات المليارات من الدولارات له كجزية، وتجريم قوى المقاومة العربية ووصفها بالإرهاب، كما حصل مع حزب الله اللبناني وحماس والجهاد والجبهة الشعبية وجماعة أنصار الله "الحوثيين" وغيرها من قوى المقاومة، وكذلك الإصرار على أن إيران، هي من تشكل تهديداً لأمن المنطقة واستقرارها والأمن القومي العربي، في إصرار واضح على حرف وتغيير قواعد وأسس الصراع من صراع عربي- اسرائيلي جوهره القضية الفلسطينية إلى صراع اسلامي- سلامي مذهبي (سني- شيعي).
وكذلك الحالة الفلسطينية الضعيفة التي لم تنجح حد الآن في إنهاء الإنقسام ووقف تداعياته ومفاعيله، وبما يمكن من إستعادة الوحدة الوطنية، ورسم استراتيجية فلسطينية سياسية موحدة،تقوم على أساس المشاركة الكاملة في القرار،بعيدا عن الهيمنة والتفرد والإقصاء.
هذه الظروف هي التي شجعت ترامب لكي يتمادي ويتطاول على حقوق شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، فعندما نجد من العرب من يدعو إلى جعل ضاحية من ضواحي أبو ديس كعاصمة للدولة الفلسطينية، فلماذا لا يتمادى ويتطاول ترامب على حقوقنا وديانتنا ومقدساتنا وأرضنا؟
لإننا ندرك أن هذا النظم الرسمي العربي المتهالك والمنهار، ليس بقادر على التصدي لمثل هذه الخطوة الأمريكية وإفشالها، فلا الإتصالات ولا الإجتماعات للمؤسسات الرسمية العربية والإسلامية، ستنتج إكثر من بيانات شجب وإستنكار خجولة، ودعوة للتريث وعدم جر المنطقة إلى حالة من عدم الإستقرار والمزيد من العنف والتطرف بلغتهم، ولذلك المجابهة والمواجهة جوهرها شعبي جماهيري فلسطيني- عربي- إسلامي، أممي، فهذه الجماهير هي التي يمكن لها أن تشكل عامل ضاغط جدي وقوي على قياداتها، لكي تغلق سفارات واشنطن في بلدانها أو لربما قطع علاقاتها معها ومقاطعة البضائع الإمريكية، وكذلك هي من تضغط على السلطة لسحب اعترافها بالولايات المتحدة كراعي للعملية السلمية وسحب الإعتراف بإسرائيل وكذلك تغيير جدي وجوهري في دور ووظيفة والتزامات السلطة، وبما يوقف بشكل كلي التنسيق الأمني، بحيث تصبح خادمة للمنظمة لا ساطية على ومصادرة لصلاحياتها، وكذلك التوجه لمجلس الأمن الدولي، من أجل إبطال هذا المشروع الأمريكي المتعارض والمتناقض كلياً مع قرارات الشرعية الدولية، وطرح مشروع مضاد يقوم على أساس سحب اعتراف مجلس الأمن والأمم المتحدة باسرائيل، وهي التي قامت بقرار من الأمم المتحدة.