إذا انطلقنا من طموحات الشعب ومصالحه واحتياجاته، فإن بيان اجتماع القاهرة ونتائجه محبطة وأقل من المطلوب بكثير، ولكنها مع ذلك ضمن التوقعات، فالمكتوب يقرأ من عنوانه. وسبق الاجتماع اتفاق ثنائي أقل ما يقال فيه بأن كل نقطة بحاجة إلى اتفاق، فضلًا عن أن الكثير من القضايا المهمة غائبة ضمن بدعة أن تمكين الحكومة أولًا.
ولو شهدنا حركة شعبية وسياسية قوية وتنسيقًا بين الفصائل والمجتمع المدني على أسس وأهداف واضحة تتجاوز أو تطور الاتفاق الثنائي لكانت النتائج مختلفة، فكان الترحيب عامًا بالاتفاق، والانتقادات له محدودة والجهود لتطويره ضعيفة، فكانت النتائج تحصيلًا حاصلًا، فكما يقال "لا ينفع العليق أثناء الغارة"، ونتائج أي معركة تتحدد سلفًا في ضوء موازين القوى والعوامل المؤثرة والمتغيّرات والإمكانات والاستعدادات التي تجري قبلها.
كان من المطلوب أن يرتفع الصوت عاليًا مطالبًا برفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة أولًا وفورًا من دون إبطاء، ومن دون ربطها بتمكين الحكومة، خصوصًا أن فرضها كان خطأً كبيرًا، وجاء ردًا على تفعيل وترسيم اللجنة الإدارية، واستخدام تعذيب الناس وسيلة لتحقيق أغراض سياسية.
لم يحصل ذلك قبل الاجتماع كما ينبغي، وجرى أثناءه ضغط كان من الممكن أن يكون أقوى، ولكنه كان لا بأس به من أجل رفعها، أو بعضها على الأقل، دون جدوى. واستغرق الحوار حول هذا الموضوع أربع ساعات كاملة. وترددت عبارة بقوة كانت ارتداداتها جلية عند المصريين: كيف سنرجع إلى شعبنا وجعبتنا خالية؟!
كان ولا يزال مطلوبًا تحقيق وحدة وطنية حقيقية من خلال الاتفاق على رزمة شاملة تتضمن ثلاثة مسارات تسير جنبًا إلى جنب وبشكل متوازٍ ومتزامنٍ، ولا يمنع تقدم أحدها (مسار المسائل الحياتية والحقوق المدنية والحريات الذي لا يحتمل التأجيل) على المسارين الآخرين: مسار تمكين الحكومة وتجسيد الدولة، ومسار إعادة بناء منظمة التحرير على أساس برنامج وطني، وميثاق وطني، ونظام داخلي يسمح بتمثيل مختلف ألوان الطيف السياسي وتجمعات الشعب الفلسطيني على أسس تشاركية جبهوية، تنسجم مع طبيعة المرحلة كمرحلة تحرر وطني، بما يفتح الطريق لعقد مجلس وطني توحيدي.
ما احتواه البيان متواضع للغاية، إذ تضمن الدعوة لتفعيل "لجنة الحريات" و"لجنة المصالحة المجتمعية" فورًا، وهذا جيد، ومطالبة لجنة الانتخابات بالتحضير لإجراء الانتخابات في العام 2018 من دون حث الرئيس على إصدار مرسوم بإجرائها في وقت محدد، وإحياء لجنة تفعيل المنظمة من دون تحديد موعد وآليات، وتفعيل عمل الكتل البرلمانية في المجلس التشريعي وفق الاتفاق المبرم بهذا الخصوص. كما تم الاتفاق على رقابة مصرية فورًا على مدى تمكين الحكومة بعد رفض تشكيل لجنة فصائلية تتولى الرقابة على هذه العملية، وذلك حتى الأول من كانون الأول القادم.
أظهر اجتماع القاهرة حقيقة أن الاتفاق الثنائي ببن "فتح" و"حماس" برعاية مصرية هش وشكلي، إذ اقتصر على تمكين الحكومة أولًا من دون وضع معايير وسياسات موجهة وسقف زمني، وهذا اتضح في الاختلافات حول ما اتفق عليه، التي ظهرت من خلال:
- خلاف حول تفسير التمكين، بين فريق يرى أنه تحقق أو يكاد أن يتحقق بعد حل اللجنة الإدارية وتسليم الوزارات والمعابر، وفريق آخر يتباين أفراده بين من يعتبر أن التمكين تحقق بنسبة 5%، أو 50%، أو يمكن أن يتحقق خلال ربع ساعة، أو لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال فرض سيطرة كاملة للحكومة تشمل قرارًا واحدًا وسلاحًا واحدًا، في إشارة ضمنية إلى نزع سلاح المقاومة، وهذا يعني أن التمكين لن يتحقق حتى إشعار آخر.
- خلاف حول تشكيل ومهام اللجنة الإدارية والقانونية بخصوص الموظفين. فـ"حماس" تصرّ على ضم ثلاثة من طرفها حتى تكون لجنة متوازنة توافقية، وأن هذا ما اتُفق عليه في القاهرة، أما "فتح" فتنفي ذلك، موضحة أن الثلاثة المتفق على ضمهم ليسوا أعضاء في اللجنة وإنما استشاريون واختصاصيون، في حين أن الراعي المصري حائر بين وعده بأن يضم الثلاثة إلى اللجنة ورفض "فتح" والحكومة ذلك.
يفتح هذا الخلاف بوابة جهنم من خلال عدم اعتراف "حماس" بما تقرره اللجنة إذا جاء لهضم حقوق موظفيها المدنيين والأمنيين الذين اتفق على اعتمادهم كلهم، مع مرونة في الدرجات والمواقع، بدليل الالتزام كما جاء في الاتفاق بصرف نصف راتب لهم مع نهاية الشهر الجاري. وإذا لم يصرف لهم بحجة عدم اكتمال التمكين أو بذريعة عدم توفر الأموال فسنكون أمام أزمة كبيرة، لذا لا معنى للحديث عن ذهاب الموظفين العاملين إلى بيوتهم، لأنه وصفة لفشل مؤكد.
- خلاف حول صلاحيات الوزراء خلال الفترة الانتقالية التي تنتهي في شباط القادم، إذ تقول "حماس" إن الاتفاق تضمن عدم المساس بالموظفين الذين هم على رأس عملهم، مع حق الوزير أن يضيف طاقمًا صغيرًا لمساعدته في عمله. أما "فتح" فتقول إن من حق الوزير أن يستدعي أيًا من "المستنكفين"، وأن يمارس صلاحياته كاملة وفقًا للقانون. وهذه نقطة خلاف كبيرة ووصفة مؤكدة لحدوث أزمات وانفجارات، إذ تترك المسألة تحت رحمة كل وزير بدلًا من الاتفاق على سياسة واضحة ملزمة ومهنية وعادلة يطبقها كل الوزراء.
- تأجيل دمج وإعادة بناء وتوحيد الوزارات والأجهزة الأمنية، في حين أن الحاجة ملحة لذلك، لأن عدم عمل القائمين إلى حين انتهاء اللجنة الإدارية والقانونية من عملها، وعدم الاعتماد على الذين على رأس عملهم؛ سيؤدي إلى فراغ أمني وإداري ينذر بالفوضى والفلتان الأمني.
- تأجيل الملفات الأخرى، مثل: البرنامج السياسي، والمنظمة، وحكومة الوحدة الوطنية، والانتخابات، إلى حين تمكين الحكومة، مع أن التمكين النموذجي، مثلما هو حاصل في الولايات المتحدة كما قيل، مستحيل، لأننا في وضع استثنائي، ولأن التمكين ليس قرارًا فلسطينيًا فقط، بل تتدخل فيه أطراف عدة أولها وأهمها إسرائيل وأميركا اللتان تريدان "تمكينًا" يعزل "حماس" ويبذر بذور الفتنة بين الفلسطينيين.
أدخل هذا الواقع اجتماع القاهرة في مأزق مستعصٍ بين من يريد أن يحصر البحث في الاتفاق على التمكين فقط، وبين من يريد أن يربطه بالقضايا الأخرى التي من دونها لا يمكن أن تكون هناك وحدة قادرة على إحباط أهداف واشنطن وتل أبيب، وهذا دفع إلى طلب تأجيل الاجتماع إلى ما بعد التمكين، الأمر الذي رُفِض من الراعي المصري، وإلى جعل الاجتماع يدور في حلقة مفرغة وأمام خيارين أحلاهما مر:
الخيار الأول: حصر الحوار في التمكين، وهذا مستحيل لأن هناك مخاطر متزايدة تهدد القضية بالتصفية وتفرض نفسها على الاجتماع.
الخيار الثاني: تناول القضايا الأساسية بحيث تسير المسارات جنبًا إلى جنب وهذا يرفضه فريق "فتح" بقوة، ما جعل الحوار الذي دار من أغلبية الحضور في واد والنتائج التي حملها البيان في واد آخر، الأمر الذي أدى إلى نتائج متواضعة لا ترقى إلى مستوى التحديات وما يريده الشعب.
قد يُطرح سؤالٌ: لماذا القبول بهذا البيان مع أن الأغلبية من الحضور - وبتعاطف من الراعي المصري - كانت تطالب برفع العقوبات عن القطاع، والانتهاء من التمكين بسرعة، وتفعيل المسارات الأخرى؟
الجواب: إن الإصرار من الأغلبية على ذلك يهدد بفشل الاجتماع، وربما يهدد بانهيار المحاولة الجديدة لإنجاز المصالحة، لذا تم قبول الممكن على ضآلته والحفاظ على ما تحقق، ولو بصورة شكلية، والسعي لتحقيق المزيد بالمستقبل رغم ما سيؤدي إليه من ردود أفعال شعبية غاضبة.
كان من الممكن أن تكون المطالبة في الاجتماع أقوى، ولكن للفصائل حساباتها ومصالحها الفردية والفصائلية، وهناك فشل يخيم على الأجواء، ولكن ستبقى النتائج غير مضمونة إذا لم تتولد ضغوط قوية وكافية ومتراكمة لتغيير المسار، وما يجعل ما تحقق أفضل من الفشل الكلي أن الفشل لن يؤدي إلى رفع العقوبات وبديل أفضل، بل إلى وضع أسوأ من الوضع الحالي، وأنّ بيانًا جيدًا ليس من المضمون تطبيقه إذا لم يجد من يحمله ويتابع تطبيقه، ولنا في قرارات المجلس المركزي وتوصيات اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني عبرة.
إن ما تحقق مصالحة شكلية، وإذا استمرت من دون التحول إلى مصالحة حقيقية - ضمن رزمة شاملة تشمل تشكيل حكومة وفاق وطني تتولى تحقيق التمكين - فستكون مهددة بالانهيار، وإذا استمرت بهذا الشكل فلن تحل شيئًا. فنحن أمام طرف يريد أن يمكّن الحكومة وهي غير جاهزة لذلك، لأنها ليست حكومة وحدة وطنية ولا وفاق وطني، إضافة إلى عدم توفير متطلبات تمكينها، لا سيما بعد إحالة الآلاف على التقاعد، وكونها لا تقبل بدمج الموظفين القائمين مع المستنكفين، عدا عن عدم قدرتها على توفير الموظفين اللازمين، خصوصًا الأمنيين مع أنها التزمت بذلك. فلا بديل عن الدمج المهني الذي يلغي السيطرة الفردية والفصائلية لفتح وحماس في سياق تطبيق أسس ومعايير مهنية ووطنية تلبي الأولويات والاحتياجات والمصالح الفلسطينية بعيدًا عن المحاصصة.