لا يمكن الحديث عن الخطاب السياسي، الموجود بين الحركات والأحزاب في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، من دون العودة لجذور تشكل هذا الخطاب، بعد النكبة وحتى قبلها، والعلاقات المتشابكة بين المؤسسة الصهيونية والشخصيات السياسية والفكرية البارزة وقتها.
عملت المؤسسات الصهيونية، كحال أي قوة استعمارية في التاريخ، على تثبيت وسطاء يعملون كضابط على الفلسطينيين المتبقين في الأراضي المحتلة، بعد تهجير 700 ألف فلسطيني، وصدمة الهزيمة والنكبة تركت آثاراً قاسية على نفوس الناس الذين كانوا يبحثون في كيفية بقائهم في أراضيهم، وفي ظل وجود حالات تسلل لمئات اللاجئين الفلسطينيين عبر الحدود للعودة إلى بلداتهم ومدنهم، وعدد كبير منهم إما اعتقل أو استشهد، وبعضهم نجح في العودة والبقاء.
قبل النكبة تعاملت شخصيات ومخاتير ووجهاء قبائل وعشائر، مع العصابات الصهيونية، وقدمت لها خدمات، وقد تعرض هؤلاء لمحاولات اغتيال من قبل الثوار الفلسطينيين، وتم عزلهم ونبذهم، وبعد إعلان قيام دولة الاحتلال تقدموا للمؤسسة الصهيونية، لحصاد ما قدموه ضد أهلهم خلال سنوات الحرب وقبلها، فمثلا في مدينة الناصرة عمل الاحتلال على إعطاء صلاحيات واسعة لسيف الدين الزعبي، الذي سهل للصندوق القومي اليهودي "الكيرن الكيمت" السيطرة على أراضي واسعة في القرى الزعبية ومرج ابن عامر وطبريا.
وهكذا في كل القرى ومدن الجليل والنقب والرملة واللد وغيرها استفاد المتعاونون، من ميزات السلطة الاستعمارية الجديدة التي كانت تتشكل، وتحاول السيطرة على الناس ومعرفة مصادر السلاح، ومعاقبة كل من قاومها سابقاً ورفض التواطئ معها بعد الاحتلال.
كان للشيوعيين دور مهم في تشكيل الخطاب السياسي لفلسطينيي الـ48، في تلك الفترة، فقد سهلت لهم المؤسسة الصهيونية القيام بدور قيادي، بعد النكبة ربما لعلاقاتهم مع الرفاق اليهود الذين لعبوا دوراً مهماً في حرب ال48 والتمهيد لها و"لقيام إسرائيل"، بالإضافة لموافقة الشيوعيين الفلسطينيين على قرار التقسيم بعد قبول الاتحاد السوفيتي به، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بأدوار عدة خلال الحرب.
بعد انضمام الشيوعيين الفلسطينيين من "عصبة التحرر الوطني" إلى الرفاق اليهود في حزب "ماكي"، أصدروا بياناً مشتركاً مع 3 أحزاب شيوعية عربية، في أوائل شهر تشرين الأول من العام 1948، حول قضية فلسطين، حملوا خلاله "الرجعية العربية والاستعمار البريطاني والإمبريالية الأمريكية مسؤولية المجازر والماسي التي أصابت الشعب الفلسطيني"، ولم يأت البيان على ذكر الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، خلال الحرب ودور الماركسيين اليهود، المنخرطين في قوات "البالماح" فيها.
بعد أحداث ثورة سنة 1929 جرت محاولات لتعريب الحزب الشيوعي الفلسطيني، وتعيين رضوان الحلو سكرتيراً عاماً له، وأيد المعسكر الشيوعي ثورة 1936 ضد الحركة الصهيونية، التي اعتبرها المعسكر حليفاً للاستعمار البريطاني، ولكن هذا الموقف تغير بعد انقلاب الموقف السوفيتي الذي أيد قرار التقسيم.
من أبرز معارضي القبول بقرار التقسيم، كان "إميل توما" محرر صحيفة الاتحاد، حيث كتب "صداقتنا للاتحاد السوفياتي كدولة غير إمبريالية مؤيدة لحرية الشعوب، لا يعني أننا مرتبطون بسياسة خارجية غربية .. لأن سياستنا تصبو إلى هدف الحرية والعدالة لشعبنا"، وقد دفع توما ثمن موقفه هذا حيث فصل من قيادة الحزب حتى الستينات.
من بين الأحداث البارزة في تلك المرحلة، كانت صفقة السلاح "التشيكية" التي وصلت للعصابات الصهيونية، خلال المعارك مع العرب والفلسطينيين، وساهمت في حسم المعارك لصالح الصهاينة، حيث كانت قواتهم تعاني من ضربات قوية، وبخاصة في معارك باب الواد واللطرون، وقد حوصرت وقطعت الإمدادات عن عدد من مستوطناتهم في "غوش عتصيون"، والقدس وغيرها.
مصادر تاريخية عديدة تشير لدور محتمل لإميل حبيبي، في تسهيل الصفقة، حيث سافر مع "شموئيل ميكونيس" سكرتير الحزب الشيوعي "الإسرائيلي"، إلى العاصمة التشيكية بلغراد لحضور مؤتمر للأحزاب الشيوعية هناك، وبعد عودته وجهت له اتهامات أنه شارك في التوقيع وتسهيل صفقة السلاح، الأمر الذي نفاه وادعى أنه لم يكن يعلم بالقضية قبل سفره.
خلال حرب 48 عمل النشطاء الشيوعيون على توزيع منشورات على الجنود العرب، وبخاصة القوات المصرية التي كانت تقاتل في جنوب فلسطين، لحثهم على العودة إلى بلدانهم، وتجمع عدد من المصادر التاريخية الصهيونية أن هذه المنشورات استخدمت في الدعاية والحرب النفسية ضد المقاتلين العرب، من جانب "الهاغاناه" فيما بعد.
تشكل صحيفة "الاتحاد" التي عادت للصدور من مدينة حيفا المحتلة، منذ 18 من شهر تشرين الأول في العام 1948، أرشيفاً مهماً بالإضافة لبيانات الحزب والمقابلات مع قادته الذين عاصروا تلك المرحلة، لدراسة طبيعة الخطاب الذي تحدث به الحزب.
في سنوات السبعينات لعب نشطاء وقيادات الحزب، دوراً مهماً في النضال ضد ممارسات دولة الاحتلال، وتتفق عدد من الكتابات أن يوم الأرض انطلقت شرارته بفضل جهود، نشطاء الحزب، ولكن لا يمكن تغافل السقف السياسي الذي كرسوه في العمل بالداخل، من خلال خطاب المواطنة والمشاركة في الانتخابات.
في إطار آخر، عملت أطراف في المؤسسة الصهيونية، على تقوية شخصيات وأحزاب لمواجهة الشيوعيين، في إطار المنافسة على انتخابات الكنيست وعدم السماح لهم باحتكار المشهد، مثل سيف الدين الزعبي والمحامي محمد نمر الهواري، الذي كان أحد مؤسسي فرقة "النجادة" العسكرية قبل النكبة، وعاد إلى فلسطين ولعب دوراً سياسياً وبعض المصادر تتحدث عن علاقته بالحركة الصهيونية، بالإضافة للمطران حكيم الذي خاض أتباعه عدة مواجهات مع الشيوعيين.
ولا يمكن التغافل عن حقيقة أن فلسطيني الـ48، شكلوا بواكير العمل الفدائي الفلسطيني، وشارك مئات منهم في العمل المقاوم بجميع أشكاله، في السنوات الأولى من النكبة، وارتقى عدد منهم شهداء خلال عودتهم للأرض المحتلة واعتقل اخرين لسنوات طويلة.