نابلس – خاص قدس الإخبارية: بعد أقل من شهرين على انتهاء معركة مخيم جنين التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية المحتلة عام 2002 في عملية أطلق عليها الاحتلال "السور الواقي" خرج "الشيخ ابراهيم" من المخيم قاصدا مدينة نابلس، بعد أن خاض هناك مقاومة باسلة إلى جانب المقاتلين من شتى التنظيمات الفلسطينية، التي دافعت عن المخيم.
من جنين لنابلس
وصل "الشيخ ابراهيم" إلى نابلس التي كانت هي الأخرى تعاني من آثار العدوان الكبير الذي نفذته دبابات الاحتلال وطائراته، بهدف القضاء على المقاومين حيث كانت المدينة معروفة بكونها إحدى أهم بؤر المقاومة، ما جعل الاحتلال يلقبها بـ"عاصمة الإرهاب"، غير أن كل الثقل العسكري الذي وضعته "إسرائيل" فشل في تنفيذ الهدف، وبقي المقاومون حاضرين يقاتلون، خاصة داخل أزقة البلدة القديمة.
هوية ذلك الشاب النحيل حنطي البشرة، ذو الطول الفارع، واللّحية الخفيفة، بقيت مجهولة لعموم الناس، لا يعرف من هو إلا قلة قليلة مقتصرة على المقربين جدا، لكن أهالي البلدة القديمة ألفوه مع مرور الوقت، وفتحوا له أبواب منازلهم، وصارت كلمات الترحيب والامتنان تنهال عليه كلما مر من بين أزقة البلدة، حتى أصبح "منهم وفيهم".
لم يكن "الشيخ ابراهيم" يتجول في البلدة إلا وهو ممتشقا بندقية "M16"، تحسبا لأي اقتحام مفاجئ أو محاولة اغتيال من قبل الاحتلال أو أعينه التي زرعها بين الناس الذين اقتصرت معلوماتهم عنه بأنه مقاوم من خارج المدينة، بينما أصبح اسمه يتردد كثيرا على لسان الأطفال قبل الكبار.
قاتل إلى جانب العديد من المقاومين الذين جابهوا الاحتلال بما تيسر لديهم من أسلحة، وخاض إلى جانبهم الاشتباكات الليلية المسلحة التي كانت تشهدها نابلس.
يحكي الناس قصص "الشيخ ابراهيم" هذا "المقاوم الاستثنائي" الذي عرف بمواجهته المباشرة لجنود الاحتلال، ولازال عدد منهم يذكرون كيف استطاع في إحدى ليالي الاقتحام للبلدة القديمة التصدي لأكثر من خمسين جنديا إسرائيليا تسللوا إلى المنطقة التي تتوسط حارتي الياسمينة والقريون.
صائد الجنود
آنذاك كان المقاومون قد نصبوا في وقت سابق "متاريس" من أكياس الرمل عند مداخل حارات البلدة، ليعيقوا دخول الجيبات العسكرية، وبينما كان "الشيخ إبراهيم" جالسا على عتبة أحد المنازل بانتظار مجيء باقي الرفاق، تسلل الجنود إلى المنطقة تلك، فتنبه"الشيخ ابراهيم" لوجودهم، وبقي يقترب منهم خلسة حتى صار على بعد أمتار قليلة منهم، ثم باغتهم بصليات من الرصاص، يومها سمع الأهالي ومن يقطنون في البنايات المجاورة أصوات جنود الاحتلال وصرخاتهم، وهو يهربون تجاه مركباتهم العسكرية للاختباء داخلها، بينما انسحب هو بسلام.
بعد عام تقريبا على وجوده في نابلس، توارى "الشيخ ابراهيم عن الأنظار، لأكثر من شهر، الأمر الذي أثار استغراب الناس الذين باتوا يسألون عن سبب هذا التغيب، إلى أن ظهر أخير مستندا على عكازه، ليتبين أنه أصيب في فخذه برصاص الاحتلال خلال اشتباك مسلح في منطقة السوق الشرقي في البلدة القديمة، اضطر خلالها للخضوع للعلاج وزرع "البلاتين" والتزام مخبئه لحين تحسن حالته الصحية، واسترجاع قوته.
إصابته دفعت بالناس للاهتمام بشأنه أكثر، خاصة الأمهات، اللواتي أحسسن تجاهه بالمسؤولية، فأصبح برعايتهن كونه "غريب بلاد" ويقصدن بذلك بعده عن عائلته ومدينته.
لم تتوقف الاجتياحات الإسرائيلية للبلدة القديمة، التي كانت حصنا للمقاومين، فاغتالت منهم ما استطاعت، وفي أحد أيام الاجتياح حلقت طائرة أباتشي في سماء نابلس، ثم بدأت بإلقاء مناشير تهدد وتتوعد الأهالي وكل من يقدم المساعدة أو يد العون "للمخربين".
ومن ضمن ما جاء في المناشير أيضا "إن الجيش الإسرائيلي يطلب منكم الإدلاء بأية معلومات عن المخربين حفاظا على حياتكم"، مرفقة ذلك بأسماء وصور لمقاومين من مختلف التنظيمات الفلسطينية ليكون من بينهم فادي بسام البهتي أحد أبرز قادة سرايا القدس بالضفة المحتلة، والمنحدر من قرية شويكة في طولكرم، إلى جانب صورة القائد العام لكتائب شهداء الأقصى في ذلك الوقت نايف أبو شرخ وستة آخرين، ويحُل بذلك لغز من يكون "الشيخ إبراهيم".
ازدادت هجمة قوات الاحتلال على نابلس أكثر فأكثر، وصعَدت من عمليات الاجتياح، واغتيال القادة الميدانيين، وتدميّر منازل الأهالي، وإحكام فرض منع التجول على المدينة.
موعد مع الفاجعة
وفي السادس والعشرين من حزيران عام 2004، كان ذلك اليوم الثالث الذي تمضيه نابلس تحت وقع اجتياح الآليات العسكرية، ومع انتصاف النهار كانت المدينة على موعد مع الفاجعة، حدث ذلك بعد أن حاصر الاحتلال بناء قديما يضم بيوتا متراصة يعرف بـ "حوش الجيطان" داخل البلدة القديمة.
حينها استدل الجنود بمحض الصدفة على أحد السراديب "نفق تحت الأرض" ذو مدخل واحد حيث احتمى عشرة مقاومين يعدُّوا من أبرز القادة الميدانيين في كتائب شهداء الأقصى، وكتائب القسام، وسرايا القدس، حيث جرى ذلك خلال محاولة الشهيد نضال الواوي الذي كان من ضمن المقاومين استطلاع المكان لتأمين خروج القائد أبو شرخ لاستنشاق بعض الهواء كونه شعر بالاختناق داخل النفق.
ولم يكن أبو شرخ يعلم حين همّ بالعودة إلى النفق أن جنود الاحتلال يراقبونه من بعيد، وما إن وصل حتى بدأوا بإطلاق القنابل السامة والحارقة والغازية داخل فتحة النفق، تجاه المقاومين العشرة ومن بينهم فادي البهتي "الشيخ ابراهيم" 26 عام، استشهد سبعة منهم وهم بالإضافة إلى البهتي: "القائد نايف أبو شرخ، وجعفر المصري، ونضال الواوي، وعمر مسمار، وجدي القدومي، وسامر عكوب"، بينما نجا ثلاثة آخرون.
بعد ثلاثة عشر عاما على استشهاده، لا زالت دموع أمه المكلومة تسبق حديثها، وبمجرد ذكر اسم فادي على مسامعها، تبدأ جولة من البكاء اللامنتهي، فهي التي لم تندمل جراحها بعد استشهاد ابنها أنور خلال انتفاضة الحجارة 1988، حتى فجعت بفراق فادي.
تقول أم فادي لـ قدس الإخبارية: "لم أكن أعلم عنه شيئا وطيلة وجوده في جنين لم أتمكن من رؤيته وانقطعت الاتصالات بيننا، وحين انتقل إلى نابلس علمنا عن طريق الصدفة بوجوده هناك بعد فترة طويلة، في يوم زفاف شقيقه قيل لي إنه تسلل عبر الجبال حتى وصل إلى مكان قريب من قريته شويكة، لكني أنا لم أره لأنه غادر بسرعة".
وبعد عام تقريبا، عاد فادي إلى قريته شويكة خلسة، جاء والده وطلب من أمه الذهاب إلى منزل ابنتها، وعندما وصلت اختبأ لها فادي خلف الستارة، وضمها من الخلف وعصب عينيها بكلتا يديه، فعرفته من رائحته قبل أن ينطق بأية كلمة، استمر اللقاء عشر دقائق ثم عاد فادي إلى نابلس، ولم يخرج منها إلا شهيدا عزيزا.