شبكة قدس الإخبارية

"الكابتن".. تسع ميداليات ورصاصتان

رشا حرز الله
رفع ياقة قميصه بأطراف أصابعه، ثم راح يمررها برفق فوق رقبته، متحسسا ندبة لجرح قديم وآثار قطب لعملية جراحية أجراها "الكابتن" قبل أعوام. كلّف هذا الجرح، قبل التئامه، "الكابتن" سائد الكثير من المكابدة والعناء الجسدي والنفسي، فمنذ أن استقرت الرصاصة في جسده، صارت كرة القدم بالنسبة له من الماضي. في غرفة الضيوف في منزله بمخيم بلاطة شرق نابلس، "شماعة" ألصقها سائد أبو سليم، حارس مرمى مركز شباب بلاطة، تدلت منها ثلاث ميداليات من أصل تسعة، حصل عليها من بطولات خاضها في كرة قدم، التقطها من مكانها وراح يقلبها ويقرأ ما خط عليها، ويروي قصة كل منها، ثم أعادها مكانها بناء على طلب أمه، وهمس لنا: "كل شيء مرَّ كالحلم". في عام 2001 شهدت منطقة الجبل الشمالي في مدينة نابلس، اشتباكات مسلحة بين قوات الاحتلال ومجموعة من المقاومين، كان سائد أحدهم، حينها أذاعت القنوات المحلية خبر استشهاده، بعد إصابته برصاصتين، واحده استقرت في عموده الفقري، والأخرى في منطقة الركبة، ثم عادت ونفت الخبر. أخبر الأطباء عائلة سائد بخطورة وضعه الصحي، وأن مرحلة علاجه ستطول لشهور وربما سنوات، لأن إزالة الرصاصة من العمود الفقري يعني احتماليه تعرضه للشلل، في هذه الأثناء كانت الأنشطة الرياضية في فلسطين متوقفة تماما، خلال انتفاضة الأقصى. حصل سائد على تحويلة طبية، للعلاج في العاصمة النمساوية فيينا، وغاب هناك خمسة أشهر، إلى أن أقرّ الأطباء بوجوب عودته إلى فلسطين، بعد أن استعصت الرصاصة على الخروج، وعاد إلى مخيمه يائسا. في فلسطين، تابع العلاج معتمدا على جلسات العلاج الطبيعي، وبعض الأدوية والمسكنات، لكن لم تكن الأمور مثلما تمناها سائد، ففي العام 2003، زج به الاحتلال في السجن لمدة عام قال سائد: "اعتقلت والرصاصة في جسدي". بعد الإفراج عنه، واصل سائد علاجه الطبيعي آملا بالعودة للملعب، وفي إحدى جلسات العلاج شعر بالرصاصة تنزاح من موضعها، حتى وصلت منطقة الترقوة (عظام الرقبة)، وما هي إلا أيام حتى صار يلمس الرصاصة بيده تحت الجلد. نصحه الأطباء بإجراء عملية جراحية لإخراجها، وتم ذلك، وما لبث أن بدأ بالتعافي حتى اعتقل مرة أخرى، لكن هذه المرة أخضع للتحقيق ما يربو على ثلاثة أشهر، ركزوا بالضرب على مكان إصابته، قال سائد إنهم كانوا يعلمون أنه حارس مرمى ومصاب، وفي التحقيق بمركز "بتيح تيكفا" قال له المحقق :"حلمك بالرياضة انتهى، سننهيك إن لم تعترف". نقل سائد إلى تحقيق سري، وفي الطريق كان يتساءل في نفسه: "إلى أين سينقلونني، كنت أنظر من فتحات البوسطة إلى الخارج، أحاول التخمين أين أنا لم أستطع، لم أر في حياتي هذه الطريق". زجوا به وحيدا في زنزانة قديمة يغطي جدرانها العفن، انتابه الخوف وخيل إليه أنهم سيقتلوه بين لحظة وأخرى، لكن تبدد الشعور عندما قرأ ما كتبه أسرى سابقون على الجدران، ما يوحي أن أحدا سبقه إليها. مرت 15 يوما لم يكن يسمع خلالها أي أصوات، كان يقترب كل ليلة من فتحة صغيره أعلى الزنزانة، ويصغي للصوت القادم من الخارج، كان صوت موج البحر، لقد كان بحر عكا. عمد المحققون إلى إدخال هواء ساخن عبر فتحة الزنزانة، وبعد نصف ساعة يحولونه إلى البارد، قال سائد: إن كل هذا تسبب بإنهاك وضعف قوته، وحدوث تشنجات عضلية، وهزل جسده. في الزنزانة سيطرت الرياضة على تفكير "الكابتن" استذكر كيف كان يصد ركلات الجزاء، سأل نفسه مرارا، هل يعود للمرمى ثانية، بعد كل هذا الضرب والتكبيل للخلف والشبح، وعدم توفر أي نوع من العلاجات الطبية. الهدوء الشديد الذي كان يسود زنزانته جعله يخشى على نفسه من الهوس، يستغل عدم وجود المحققين لإجراء بعض التمارين الرياضية الخفيفة، وأصبح تفكيره منصب على الرياضة أكثر من أي وقت مضى، وكيف يرجع لاعبا، وإذا لم يوفق بذلك سيكون مدربا، ثم يعود ويقول في نفسه "بأن من لا يستطيع حمل كأس ماء، لن يستطيع صد كرة" فيتملكه اليأس مرة أخرى. بعد التحقيق، نقل إلى السجن منهكا، واقتصر تدريبه على بعض التمرينات اليومية الخفيفة بالقدر المتوفر، طوى صفحة الرياضة من حياته، وبعد ثلاث سنوات من الحكم، أفرج عنه، ليعود شغف كرة القدم يسيطر عليه. في عام 2008 رفض أحد الأندية المحلية ان يكون سائد أحد أفراده، وحارس مرماه، فجسده الهزيل لم يقنع المدرب، فانطلق وغصة في نفسه، نحو الملعب يتدرب مصمما على استعادة لياقته. كان سائد لاعبا في مركز شباب بلاطة ولما يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وتدرج مع الفريق في فئة البراعم والأشبال والناشئين، إلى أن أصبح حارسا لمرمى الفريق الأول للمركز، والذي ينافس في دوري المحترفين منذ انطلاقته حتى اليوم. لعب لعدة أندية في دوري المحترفين، لكنه عاد إلى ناديه الأم مركز شباب بلاطة، وحين يمر من زقاق المخيم تنهال صيحات الترحيب بـ "الكابتن"، يستعلمون عن تدريباته ويناقشون مجريات مباريات سابقة خاضها. تلقى "الكابتن" عروضا احترافية محلية، وواحدا خارجيا من قبل نادي الإسماعيلي المصري عام 2013، دون أن يتكلل الاحتراف الخارجي بالنجاح، غير أنه احترف محلي مع أندية هلال القدس، ومركز شباب الأمعري، وثقافي طولكرم، وشباب الخليل. رغم أن عمره تجاوز الـ34، إلا أنه ما يزال يتمتع بلياقة كبيرة تخوله الاستمرار في اللعب لسنوات عديدة، قال إنه سيواصل مسيرته في عالم كرة القدم والنية نحو التدريب، خصوصا للأطفال والناشئين الذين يعيشون ظروفا صعبة في المخيمات. انضم "الكابتن" كما يحب مشجعوه من أهالي المخيم وغيرهم تسميته، إلى صفوف المنتخب الوطني سابقا، ولعب مباريات ودية ورسمية في صفوفه، منها بطولة كأس التحدي عام 2013، حين تأهل المنتخب للمرة الأولى في تاريخه إلى بطولة كأس أمم آسيا 2014 في أستراليا، ورفع العلم الفلسطيني لأول مرة في مدنها. حصد "الكابتن" جائزة أفضل حارس مرمى عام 2010، وفي بطولة شمال أفريقيا الثالثة لكرة القدم الخماسية، كما حصل على بطولة الدوري المحلي لكرة القدم عام 2016. في واحدة من الطرائف التي حصلت في ليلة زفافة، جبلت أمه الحناء، وارتدى "الكابتن" بدلة رسمية، وبدأ باستقبال المهنئين، وتم تحضير كل ما يلزم الحفل إلى أن حضر عدد من أصدقائه ومن مشجعي مركز بلاطة، غافلوا الحاضرين مدعين أنهم حضروا له مفاجأة، اختطفوه من بين الحضور، وانطلقوا به نحو مدينة رام الله، نزعوا بدلته الرسمية، وألبسوه الرياضية بدلا منها، ليشارك في إحدى المباريات الرسمية التي كان الفريق يخوضها في الدوري المحلي. رافقنا الكابتن إلى الملعب البلدي في نابلس، لحضور إحدى الحصص التدريبية، وبعد مرور ساعة، ودعناه، وكان آخر ما شاهدناه من التدريب، "الكابتن" سائد أبو سليم يصد ركلة جزاء حاول مدربه تسجيلها في مرماه. المصدر: الوكالة الرسمية (وفا)