وسط مركز بلدة ديراستيا الواقعة شمال غرب سلفيت، ومنذ قرون طويلة، تتربع البلدة القديمة بملامحها الرومانية والمملوكية، على مساحة متصلة تقارب الـ(51) دونماً، لتشكل أنموذجاً فريداً للطراز الريفي المعماري القديم، ولتكون نافذة يتنسم الفلسطيني من خلالها عبق أصالة التاريخ وحضاراته.
أربع بوابات مقوسة، تعلوها أربع مضافات، وأزقة تعج بالممرات الضيقة، محتضنة بيوتاً متلاصقة، قد لا يبدو للمتابع منذ الوهلة الأولى أي جديد، فالبلدات القديمة منتشرة في الوطن، لكن المتمعن في ديراستيا يلاحظ بأنها لا تزال تحتفظ بكافة معالم بلدتها القديمة، كمساحة متلاصقة على شكل حواري قديمة، بعكس البلدات القديمة في بقية أرجاء الريف الفلسطيني، التي تحولت بيوت بلداتها القديمة الى أشلاء متناثرة، بفعل الزحف العمراني وغياب الاهتمام.
مشاريع الترميم والنهوض
بدا للشباب الواعي الخطر المحدق بالبلدة القديمة، وتجلى ايمانهم بالحاجة الماسة لترميمها مبكراً، كي تبقى محتفظة بمعالمها القديمة المتوارثة، ويقول عضو بلدية ديراستيا نظمي سلمان أن البدايات الأولى للمشاريع الترميمية، كانت في أوائل التسعينيات، بأدوات بدائية بسيطة، عبر مبادرة شبابية قادها مخيم صيفي لاتحاد الشباب، ويضيف السلمان بأن أنشطة الترميم وقتذاك اقتصرت على صيانة البيوت الآيلة للسقوط فقط، من خلال سد التصدعات والشقوق بالاسمنت، وينتقل السلمان الى سلسلة المشاريع الترميمية بعد التسعينيات، فيلفت إلى أنها طالت معظم مناطق البلدة القديمة وجُل أحيائها، بالشراكة مع عدد من المؤسسات المحلية والدولية، وبحجم أكبر وبمستوى أكثر فاعلية، مشيراً في الوقت ذاته الى وجود مناطق تزخر بالبيوت التي لا تزال آيلة للسقوط وبحاجة للترميم حتى اللحظة.
ويدعو عضو بلدية ديراستيا الى زيادة الرحلات والزيارات الى البلدة القديمة، بصفتها معلماً تراثياً فلسطينيا بارزاً، لافتاً الى وجود اقبال يكاد يكون ضعيفاً على مثل هذه الزيارات، ويؤكد السلمان أن الجهود التي بذلت لإعادة احياء البلدة القديمة وتحويلها لمركز تاريخي لم تلق الاستجابة اللازمة من قبل العديد من الجهات الرسمية والأهلية.
المؤسسات.. والنفخ في الروح
عقب سلسلة من المشاريع الترميمية، ازدادت البلدة القديمة بهاءاً وجمالاً، وغدت أكثر ثباتاً وإصراراً على الاحتفاظ بعراقتها في مواجهة عواصف السنين، وحول محاولات أهالي ديراستيا ومؤسساتها لإحياء بلدتهم القديمة، يشير مدير اتحاد الشباب الفلسطيني ياسر عوض إلى أن عدداً من المؤسسات المجتمعية والأهلية في ديراستيا اتخذت من البلدة القديمة مقرات لها، كالعيادة الطبية المجتمعية، واتحاد الشباب الفلسطيني، ونادي ديراستيا الرياضي، ومركز أطفال ديراستيا.
ويدعو عوض جميع الجهات الرسمية والمؤسسات المختلفة إلى ايلاء جُل اهتمامهم بالبلدة القديمة في ديراستيا، باعتبارها نموذجاً تراثياً نادراً، واصفاً إياها بأنها "كنز تاريخي حي" يعكس الإرث الحضاري، ويؤكد الحق الراسخ للشعب الفلسطيني في أرضه، مناشداً الجميع بالوقوف أمام مسؤولياته تجاه وقف الزحف العمراني الحديث على البلدة القديمة، الأمر الذي يؤدي الى استمرار تشويه أصالة البلدة وعراقتها.
قلعة نضالية
لم يقتصر دور البلدة القديمة في ديراستيا وأهميتها كونها مرآة تعكس الوجه الحضاري الأصيل، الذي يؤكد على الهوية الفلسطينية، بل كانت على مر العصور بمثابة قلعة نضالية، عاصرت معظم مراحل القضية الفلسطينية منذ الأزل، ويقول أحمد عقل من سكان بلدة دير استيا بأن مضافات البلدة القديمة لا تزال شاهدة على اجتماعات قادة الاضراب الشهير عام 1936، إضافة لاحتضان أزقتها أشبال الحجارة في الانتفاضة الأولى، واتخاذها معقلاً تحصن به مناضلو الانتفاضة الثانية وشهداؤها.
البلدة القديمة في دير استيا، عنوان للأصالة والبقاء، ورمز للتضحية والفداء، وتصر على أن تبقى الشاهد الحي على الهوية الفلسطينية الأصيلة، والوجه المشرق الذي يبدد عتمة ليل الاحتلال المدلهم بتاريخه الإسرائيلي المزيف، رغم شح الدعم والإمكانات لاستنهاضها.