لرنين الحكايا استمرارية العطاء الباذخ؛ كيف لا والعطاء مقرون بالأوطان اليتيمة والمسلوبة الجمال، هذا شاب لا يدّخر جهدًا لرفعة وطنه في مجال علمه، وهذا لا يهمس شِعره إلا لوطنه، وذاك العجوز أجرى عمره يُطعم بقايا أنفس التهمتها جرائم عدو لا يعرف الرأفة، وتلك امرأة عظيمة خبأت تحت جديلتها قصص الشمس الشاهدة على أرواح الشهداء، وحياة الأيامى والثكالى، وذاك مجاهد عرِف الدرب فلزمه، ولم يحُد عن بوصلة النصر.
وفي وقت التجلّي هذا صوت المنبه يوافق أذان العزة والرفعة، حين "حيّ على الصلاة" والكلمة العليا الخالدة فلاحنا بصلاتنا، فانتفضت من دونية الفراش الوثير لرفعة الصلاة، وهذه خصلة أورثني إياها والدي الشهيد، وكانوا يسمونه "شهيد الإعداد".
قبيل الذهاب للعمل أتجه لمقبرة الحي لزيارة قبر والدي الشهيد المزين بمقولة جدي الشهيد له " النصر يا ولدي أو النصر"، أقف على شاهد قبره، وأعيد ترتيل هذه العبارة مرات ومرات، لأستذكر صنيع أبي، وجدي من قبله لأجل هذا الوطن، أقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، واعدا إياه أن استكمل المسير، فما أنا إلا بعض منه.
اتجه مباشرة للعمل فقد منّ الله عليّ بعمل مرموق بعيد تخرجي من الجامعة في مجال هندسة الاتصالات، أمي تخبرني دائما أنني ورثت والدي بصفاته عصيُ على الهزيمة واتكائي دائما على النجاح الباهر، لا أقبل الخسارة في أمر يقابلني، وهذا ما ميّزني عن غيري من زملاء المهنة، وأوصلني لهدفي محققاً طموحي الذي عليه أستند، ولطالما حين لحظة شموخ أتمتمُ في خَلَدي: أنا ابنك يا أبي. أتَفْخر؟
تمام الرابعة عصرًا أنهي عملي في الشركة متجها لشرق غزة، مبتعدًا عن ضجة الحياة الرتيبة، فهذا أنا أرتدي بدلة عصرية بلون كحلي، وحقيبة جلدية بلون بني تتفق بلونها مع الحذاء، ونظارة شمسية بماركة أصلية، وكل هذا يكفي ليقول عامة الناس أن هذا الموظف المرموق يغادر في هذه الساعة عائدا لبيته، ولكن للنفس ميل آخر غير الظاهر للعيان.
بعد تنسيق سريع على الهاتف أستقل سيارة بيضاء اللون من نوع سكودا، تضعني في منطقة قليلة السكان، لأستقل سيارة أخرى سوداء اللون من نوع تويوتا "جيب" تقلني لموقع عسكري تابع لكتائب القسام، حيث عملي الأجّل في حفر الأنفاق، أتجه لفريقي ومسئول الموقع، نتبادل التحايا، وأستبدل الثياب، وأتفقد أدوات الحفر، متواصلاً مع الرفاق تحت الأرض من خلال شبكة اتصالات جهزت خصيصا لهذا الأمر.
تتسع الطريق أحيانا لطولي، وأحيانا أحني الجسد، أسير30 مترا هبوطا للوصول لأرضية النفق، سلام يتبعه ابتسام، وتبديل للورديات يستقبلني الأصدقاء مازحين، " اه يا عم اجانا أبو برستيج عالي والبدل الرسمية. إلا قلنا بالله الدنيا فوق ليل ولا نهار " أبادلهم المزاح والضحكات، التي أعتبرها صك الغفران لمن هم أعلى النفق، الذين تلتف عليهم النفوس الضالة ولا تترك لهم إلا شذرات من وجع وكآبة الحياة.
يبدأ النفق بعارضتين من الكتل الإسمنتية، يعتليها كتله اسمنتية مقوسة، وأرضية اسمنتية لسهولة الحركة في الداخل، وتمتد هذه العارضات الإسمنتية على طول النفق مهما بلغ طوله، وعمقه، تختلف نوعية العارضات العلوية حسب المنطقة، رملية كانت أو طينية، يستمر عمل الوردية 12 ساعة تتوزع بين الحفارين، وعاملي التنظيف، والتبليط، وعاملي المواتير الكهربائية المعروفة باسم (الدشمه)، لسحب الرمل أو إنزال العوارض الإسمنتية.
الوردية التي أعمل بها مكونة من 8 أشخاص كلهم يحملون شهادات عليا أعلاها الدكتوراه، وأدناها الدبلوم، أنا على مشارف إنهاء رسالة الماجستير في هندسة الاتصالات، أولئك فتية الحي الذين لا يطلبون شهاداتهم العليا من أجل أمر عادي، إنما تتطلبهم الشهادات كأن تكافئهم على عمل عظُم شأنه بين الشعوب المنتفضة، فأولئك وعلى الرغم من رغد العيش إلا أنهم أصروا على ضيق الحياة من أجل الحلم الواسع، والحق الفضفاض، وهو تحرير تراب وطن مقهور.
كلما خارت قواي ودب الوهن في نفسي أستذكر ما أخبرتني به والدتي عن خلافها ووالدي حين كنت جنينا هي كانت تريد بنتا، وهو ولدا، وكيف كان والدي ينهي الخلاف بقبلة منه لجبين والدتي ليخبرها ولدا أم بنت سأربيهما على حب التحرير؛ أمي التي ما فتأت أن تحثُ روحي على النضال والجهاد في سبيل الله، وكانت قد ألبستني هيبة القرآن منذ صغري عند شيخي في المسجد، وما زلت ألتمس درب أبي الطويل الذي لم يقطعه بالكامل بعد.
الانطلاق من نقطة التجمع داخل النفق حتى آخر نهاية عمل من سبقونا هو طريق طويل، وخلاله تذكرت ذاك الشاب الذب كتب تدوينته الفيسبوكية ذات خزي أن "من يعمل داخل الانفاق مجموعة من المرضى، أو المنبوذين، وكارهي الحياة" كأنّه فاضل بين من يتوسد الدعة والراحة وممتشقا صوته وبين من تغلبه همته لنصر مبين ممتشق سلاحه، ليته يعلم حجم الأمنيات لنصر بهي، والأحلام الشفافة التي تراود فتية الإعداد، ليته يعلم ذاك الذي ترك زوجه العروس لأجل غلبة العطاء ، وذاك المعلم والمهندس والصحفي وغيرهم الكثير من مختلف الألوان المشتركة جميعها في حب الجهاد والبذل.
داخل النفق لا أشعر بالوقت، ولا التعب، لدينا هم واحد أن نواصل الحفر تحت أي ظرف، لأننا نؤمن أننا نفتح بابا للتحرير، هل نحرم من ملذات الدنيا داخل النفق؟! بكل تأكيد لا، هناك وقت للشرب، والأكل بل للمزاح، والصلاة حتى أني أقمت عيد ميلادي داخل النفق وأجبرت صديقي على تناول الحلوى رغم عنه، " مزاحا".
ليس كل الأيام تحمل في طياتها إصابات داخل النفق، أو حتى حالات شهادة، وذلك لتعلمنا من الأخطاء السابقة، أصعد لسطح الأرض بعد أن قضيت 9 ساعات أسفلها، أسلم العتاد لمن سيستلم بعدي، أغتسل، وأتجه للمنزل بنفس الطريقة التي أتيت بها.
تستقبلني أمي بابتسامتها المعهودة أجلس بين يديها، معاتبا أن السهر يؤثر على صحتها، لترد ما بقي لها من عمر طويل، وأنها ترغب في أن تراني مرتبطا بفتاة تكمل معي مسير التحرير، وتشاركني الحلم، وأن نرزق بأطفال، ليكونوا مشاعل من نور، تنير طريق الجهاد، أخبرها حين يحين الوقت لكل حادث حديث، أقبل جبينها أخلد للنوم ليتفق مجددا صوت الأذان، ومنبه هاتفي في الميعاد، لإيقاظي في الموعد المحدد لأسير في عجلة الحياة التي اختارها الله لي.