ها هو رمضان يمضي، وتبقى الذكريات ويبقى معها الأمل بعودة الأحباب وانكسار قيدهم ...
ما أن يهلّ هلال رمضان فتهلّ معه ذكريات لها بريق خاص، عطر من الماضي الجميل، ولمسة تنثرها بركات اللحظات الإيمانية بعطف على الذاكرة الحانية، في انتظار الهلال، ينتظر الأحبة الفرج، يأتي رمضان موسماً لاستمطار الفرج واستمطار الرحمات واستعلاء الروح عن سفاسف الألم والجراح، يهل رمضان ليعلن أنه في السجن " غير " عن أيّ رمضان خارج هذه الأسوار .. وبعيداً عن تلك الأغلال ..
رمضان في السجن غير، بكل تفاصيله وملامحه التي تختلط بملامح الشهر الفضيل التي يعتادها الأسرى في سجونهم ، فارتباط الصوم بالصبر ومجاهدة النفس والتقرب إلى الله، تلك ملامح وعبادات أتقنها الأسرى وعاشوا تفاصيلها من لحظة الاعتقال وما قبلها مروراً بظروف الاعتقال وطبيعتها، يعيشون معها، يزدادون في رمضان نهلاً من عبيرها وعبقه.
لا سيما وأن الكثيرون منهم يعتاد الصيام على مدار العام ليعزّز الصبر بالصبر.. وكذلك اعتاد الأسير الغياب عن أهله وذوي ، واعتاد تلك اللوعة التي تحرق قلبه وهو في منفاه وزنزانته.. قد يصوم ويفطر وحيداً في عزله، ويأتي الهلال ليطلّ على الوجود بينما لا يزال وحيداً.
أما في التحقيق فلا يدرك الأسير رمضان ولا يعلم متى يهلّ هلاله، وإن أدرك الصيام تعذّر عليه فيما بعد معرفة مواقيت الأذان وحتى الصلاة في مقابر الأحياء هناك في الزنازين وفي "البوسطة " و"المعبر "، وقد تمر اللحظات عصيبة موجعة على الأسرى المرضى في مستشفى سجن الرملة، قد يكون رمضان موشحاً بالوحشة أكثر من غيره من السجون وسط الحالات المرضية الخطيرة وأوجاع وآهات الأسرى هناك وقد يأتي رمضان ورمضاء النار في مجدو وجلبوع وشطة والنقب قد حوّلت السجن إلى جحيم وسط الحرارة والرطوبة العالية.
ما أن يبدأ الشهر الفضيل، تفيض معه الخيرات وتهلّ، ويبرع الأسرى بأن يجعلوا من رمضان رحلةً إيمانية وروحانية عظيمة، حيث الأجواء الاجتماعية الإيمانية التي يعززّها رمضان ويعزّزها حاجة الأسرى لأن يكونوا بين أهلهم وذويهم – ولو شعورياً - تتكاتف الجهود وتبدأ مرحلة استنهاض الهمم، فتفيض العزائم وتستعد النفوس لحصاد الخير، رباط وجهاد وصيام وقيام ومناجاة... يجتمعون على مائدة تزينت لهم وقلوبهم ترمق بعين المشتاق لمّة الأهل واجتماعهم، يتبادلون الهدايا المتواضعة فيما بينهم، يغلفونها بالرسائل الأخوية الإيمانية، يحاولون اقتناص الفرح وانتزاع البسمة بأي ثمن..
كخلية نحل يبدأ النهار في رمضان وقد لا ينتهي في الليل، وللوقت في رمضان قيمة يدركها الأسرى جيداً ، أصوات تلاوة القرآن تتعالى من الغرف والزنازين، وفي جنبات القسم الضيقة، المواعظ الإيمانية والدروس الرمضانية والأدعية والأذكار ، يتحولق المجاهدون الصائمون في ساحة القسم في نهاية اليوم تلهج ألسنتهم بالذكر والدعاء، رافعين أكفّ الضراعة يستمطرون الفرج، وذاك جالسٌ في غرفته، يعتلي " البرش " تنساب العبرات على وجنتيه وبمشاعر حبلى بالوجع يحملها في صدره، أسير أمضى رمضان ورمضان حتى ما عاد يذكر كم مِن رمضان حلّ عليه وهو بعيد عن أرضه وأهله.
يأتي رمضان الثلاثون على أحدهم وأكثر من ذلك وأقل على الآلاف التي غابت عنها فرحة رمضان ونسيم رمضان ولمّة الأهل في رمضان، يقول الواحد فيهم: عساه آخر رمضان خلف القضبان، يتبادلون التهاني والدعوات بان يتقبل الله منهم الجهاد والصيام ودعوة بأن لا يأتي رمضان القادم إلا وهم بين أهلهم وذويهم ، تلك أحلامهم تصعد كل يوم وفي كل سجدة وفي كل حين ..
رمضان في السجن غير ، و"غير" ليست بالمسلسلات ولا بالرمضانيات الباهتة التي حوّلت رمضان إلى شهر تتحالف فيه الشياطين من كل حدب وصوب تحت ستار الفضائيات وغيرها بعد أن صفّدت تلك الشياطين بنسختها الأخرى، رمضان يعني للأسير طقوساً بدايتها الحنين ولا تنتهي أن تكون نزهة للعابدين، رمضان شهر تشتعل فيه مواجع الأسرى وذويهم لتضيف طقوساً أخرى يعلم تفاصيلها كل أسير، يطول النهار وتطول فيه صحبة القرآن وجمعة الأحباب واجتماعهم على موائده.
يستنفر الأسرى كل طاقاتهم وجهودهم إذ ترتفع الهمم والعزائم، الكل يسعى لخدمة الكل ولينهل من معين هذا الشهر العظيم، فرادى وجماعات، قبل المغرب بقليل يجتمعون في مشهد مهيب، تحفّه الملائكة وتحفّهم تلك المشاعر العظيمة حيث تتجلى تلك المشاعر وكأنها على جبل عرفة يوم الحج الأكبر، ما بين تسبيح وذكر جماعي ودعاء تختلط فيه المشاعر وتزدحم على أبواب الإجابة ترانيم الرجاء، ثم يحين موعد الأذان لتنساب دموع المحبين المشتاقين لأن تكون اللقمة الأولى على تلك المائدة من يده إلى يد أمه أو أبيه أو ابنه أو زوجه، أو من أيديهم إلى فمه وقلبه.
تزدان المائدة باليسير القليل غير أن الايدي الماهرة التي تفننت طوال اليوم بإعداده ليخرج بتلك الحلّة جعلته فخماً لذيذاً، ثم تبدأ معركة "الجلي" وغزوة المطبخ حيث يتسابقون كبيرهم وصغيرهم للجلي فلا يتفقون أبداً ولا تنتهي المعركة إلا بوقوف الجميع للجلي لا يتخلف منهم واحداً حتى لو تطلب الأمر الوقوف في ساحة الغرفة الضيقة حاملاً إبريق الماء منتظراً تنظيف الأرضية أو حتى اللهو فلا يبدو ناكصاً أو متكاسلاً أو مضيّعاً للأجر، ثم تجيء التراويح، يتفقون على أدائها بفواصل تتيح لهم الاستراحة ما بين ركعاتها، في غرفة ضيقة صغيرة والرطوبة العالية والحرارة المرتفعة والمشقّة كذلك، يستريحون ويبتهجون ويتحدثون ويوعظون ويتدارسون ، يقومون بعدها فرادى، يختلي كل واحد بهمومه وأمانيه وورده اليومي ثم يجتمعون أخرى قبل السحور مصلّين قائمين متوجهين إلى الله في جو إيماني تفرضه ساعات الفجر الجميلة والثلث الأخير..
هكذا يمضي بعض يومهم في تلك الزنازين والغرف، غرف لا تتجاوز أمتاراً محدودة تضم بين جنباتها عشرة من الأسرى، هي لهم الغرفة والمطبخ والمصلى والساحة وكل شيء، غرف لا ماء بارد فيها ولا مكيفات، قبور لكنها جنان للعارفين السائرين في طريق الله الباحثين عن كرامة ووطن وأمة تاهت وضاعت وتبعثرت تحت الركام