الشعور بالعجز هو واحد من أسوأ الأمراض الاجتماعية، التي تصيب الفلسطينيين وما يواجهون من أزمة تعصف بمشروعهم الوطني. تمضي الأزمة الفلسطينية بتعميق الانقسام وفرض مزيد من العقوبات الجماعية ضد قطاع غزة بذريعة الضغط على حركة حماس لاستعادة الوحدة الوطنية، لتتجلى الأزمة بطلب السلطة الفلسطينية من الاحتلال بتقليص كميات الكهرباء الموردة للقطاع لتصل الى ثلاثة ساعات في اليوم. نحن أمام مرحلة تاريخية جديدة من التاريخ الفلسطيني، وهي امتداد لمرحلة عشر سنوات من الانقسام وتصارع البرامج والمشاريع الفلسطينية التي لم ينجح أي منها في إنهاء الاحتلال، وعدم الاعتراف بأن الفلسطينيين هم شعب تحت الاحتلال وأنهم حركة تحرر وطني. الأزمة تجلت منذ ثلاثة أشهر، باتخاذ السلطة الوطنية إجراءات قاسية وعقوبات ضد جزء أصيل من شعبها، يعاني الحصار والظلم منذ عشر سنوات، وتتفاقم أوضاعه بشكل مستمر. هذا النوع من الأزمات والعقوبات الجماعية والمتلاحقة لسكان غزة لم يكن آخرها وقف إصدار التحويلات للعلاج في الخارج لنحو ١٥٠٠ مريض سرطان، والعدد قابل للزيادة كل يوم، ووقف رواتب الأسرى. وأيضاً حجب المواقع الإخبارية اعتداء على الحريات والحق في الحصول على المعلومات، ووضع قانون للسلطة القضائية في الضفة، كل لك ضرب لأي تطلع وطني وبناء النظام السياسي الفلسطيني، وهو تعسف وعصف بالقانون ويؤسس لنظام بوليسي. هذه العقوبات والإجراءات لا تلخصها مشاهد الفقر والبطالة ولا ينقضي أثرها بعامل الوقت الذي يراكم الظلم والألم والإحباط، ويضاف إلى الذاكرة، ولن يمر بدون ثمن قاس. أخطر ما سيعلق في الذاكرة، هو الطلب من الاحتلال تقليص الكهرباء ووقف تحويلات المرضى وغيرها من القضايا اليومية الملحة، وما يعانيه الناس في كل تفاصيل حياتهم والحرمان من حقوقهم الإنسانية الأساسية. فالأداء الرسمي خاصة الرئيس محمود عباس وحكومته لإدارة أزمة الانقسام ومعالجة اثاره والدرجة العالية من الحساسية بإدخال الاحتلال على خط الأزمة، وهو لا يكل ولا يمل في تعميق الانقسام واستمراره، والخطورة في زعزعة جذور الثقة في الروح الوطنية. والمسؤولية الأخلاقية والقانونية المترتبة على العقوبات الجماعية المتخذة وطريقة إدارتها، في لحظة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية ليضرب الاحتلال العصب الحي للفلسطينيين، وبقود حربا ضارية ضدهم على جميع الأصعدة، ويعيش الفلسطينيين أوضاع اجتماعية واقتصادية خانقة. لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية، ولم نسمع عن تجربة مماثلة في أي مكان في العالم، تتطوع سلطة وطنية وقيادتها لا سيادة لها على إقليمها وتخضع للاحتلال، وتحاول إخضاع جزء من إقليمها وشعبها بمساعدة الاحتلال، ولا تشعر بأنها تهين نفسها وتحط من كرامتها الوطنية، ولا تملك خطة أو استراتيجية وطنية لاستعادة الوحدة الوطنية، ومقاومة الاحتلال، وتنسى أنها حركة وطنية تسعى للتحرر من الاحتلال. طوال شهور الأزمة لم تتقدم الفصائل الفلسطينية بمبادرات أو حلول تخفف من الأزمة أو توقف هذا الانحطاط والتدهور الوطني، وكأن الفصائل الفلسطينية فقذت قيمتها ومبرر وجودها كجزء من حركة التحرر الوطني. في حين أن الاحتلال يواصل حصار غزة، باحثا في حلول للازمة ليس حرصاً على وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة اقليم السلطة الفلسطينية، إنما لمصالحها الأمنية وتعميق الانقسام وإبقاء الأزمة أقل من حدودها الخطيرة وتبقى الفلسطيني الغزي بين الحياة والموت. الموقف الرسمي الفلسطيني في قرارته وفرض مزيد من العقوبات الجماعية يفتقد أي وضوح ومشروعية، إلا إذا كان الموضوع هو استجابة للضغوط الأمريكية، والتماهي مع الموقف السعودي في فرض أمر واقع عربي جديد بذريعة محاربة الإرهاب والتعاون مع إسرائيل بالتطبيع معها على حساب المشروع الوطني. اتهامات الفلسطينيين للسلطة بالتفريط في غزة بصياغات جديدة عديدة تؤسس لقطيعة مع الحاضر والمستقبل، ونزيف وطني وسياسي داخلي لا أحد يعرف إلى أين سيأخذ الفلسطينيين جميعاً؟ كل ذلك يضرب مجتمعنا المنهك وغير القادر على التماسك، ومقدراته لا تزال مستهدفة وفقد مناعته ويحاول التصدي للخطر الداهم عليه. والأسوأ أن الضمير الجمعي يعيش ضربات احباط جماعي مؤلمة وعميقة. كيف سنواجه الاحتلال وكرامة الفلسطيني تهدر من قيادته والمسؤولين عنه، والتداعيات الاجتماعية والأخلاقية لا تقل خطورة عن السياسة والاستراتيجية جراء ما تقوم به السلطة وعدم قدرة حركة حماس على وقفها بسحب الذرائع ووقف التدهور الوطني. ما يدعو للأمل هو حيوية الشعب الفلسطيني وأجياله الجديدة وتجاربه السابقة في تحدي الصعاب والتصدي لكل هذا التدهور والعبث في القضية الوطنية. أي تطلع لاستعادة الوحدة الوطنية مستقبلا مجافي للحقيقة وعسف بالعلاقات الوطنية، فالمستفيد الأول من كل هذا هي إسرائيل والولايات المتحدة ومشروعها الشرق أوسطي الجديد القديم، ومساعدتها في الاستفراد بالقضية الفلسطينية وتصفيتها.