كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة والنصف حين وقف الشبان الأربعة بين الجموع وسط مدينة الناصرة، وبينما هم في انتظار الموكب، تقدم نحوهم رجل مجذوب وقال بعفوية غريبة: (الله يسلمكم يا جماعة.. هان بده ينزل الدم، هان بده ينزل!) فضحك الناس منه قبل أن يمضى بعيداً.
بعد عشرة دقائق وصلت السيارة وعليها علم بريطانيا، ثم خرج منها الحاكم مزهواً بنفسه سعيداً باحتفاله في هذا اليوم بعيد ميلاده الواحد والأربعين الذي شرب نخبه مع سكان أحد الكيبوتسات اليهودية في الجليل، حدّق ببصره يميناً وشمالاً وعلت وجهه ابتسامة عريضة وتقدم بخطى ثابتة نحو الشارع الفرعي المؤدي لباب الكنيسة الخلفي المُعد لدخوله.
في تلك الأثناء تحسس الفدائيون مسدساتهم من تحت ثيابهم وانتظروا إشارة البدء من قائد الخلية.
تقدم الحاكم نحو الباب رافعاً يده ليعدّل قُبعته، وقبل أن يُنزلها دوت أصوات طلقات الرصاص من أربع مسدسات، لينطلق معها قابض الأرواح لينتزع روحه بلا تردد.
كانت الإصابات مُباشرة في الرأس والصدر ورغم ذلك حاول الحاكم التقدم نحو باب الكنيسة فأسرع إليه محمد أبو جغب مسددًا نحوه ثلاث رصاصات كانت كفيلة بإزهاق روحه وتركه مرمياً على الأرض أمام حشد كبير من الناس، فيما كان مرافقه (ماكوين) مُنكباً على وجهه مُصاباً بكتفه ومسدسه إلى جانبه فأطلق عليه أبو جغب رصاصتين في رأسه أدتا لمقتله.
دبت حالة الفوضى والهلع وسط المدينة وانسحبت الشرطة نحو "القشلة" مرعوبين من المشهد، ما ساعد المجاهدين على المُغادرة بسلاحهم خارج المدينة، وكان بانتظارهم مجموعة أخذت مسدساتهم وخبأتها في قرية صفورية.
[caption id="attachment_120758" align="alignright" width="162"] لويس يلاند أندروز[/caption]كان ذلك في مدينة الناصرة مساء يوم الأحد 26/9/1937 على مدخل الكنيسة الأنجليكانية، وكان المستهدف بتلك العملية الفدائية الضابط البريطاني "لويس يلاند أندروز" أسترالي الأصل، الذي خدم مع الاحتلال البريطاني في فلسطين شاغلاً مواقع مهمة كان آخرها منصب حاكم لواء الجليل.
كان أندروز الضابط البريطاني صهيونياً أكثر من اليهود بما قدمه لهم من خدمات ومساعدات للسيطرة على الأراضي العربية، وملاحقة المقاومة الفلسطينية خلال الأشهر والسنوات السابقة وذلك من خلال المواقع التي شغلها كقاضي عسكري في حيفا أو حاكماً لمدينة عكا، فمدينة صفد ثم الناصرة.
شكل اغتيال أندروز ضربة موجعة للاحتلال البريطاني، إذ تمكن المجاهدون من الوصول لواحد من أعلى الرتب البريطانية في البلاد وهو حاكم لواء الجليل.
وهذا الاغتيال أصبح حدثاَ مفصلياً في فلسطين، فذهبت دولة الاحتلال البريطاني لاتخاذ سلسة إجراءات قمعية ضد العرب والنخب السياسية، فاعتقلت العشرات وأبعدت عن فلسطين بعض القيادات وحلت الأحزاب واللجنة العربية العليا ولاحقت المفتي الأكبر الحاج أمين الحسني وحاولت اعتقاله، وأقالته من كل المواقع التي يشغلها وأنشأت المحاكم العسكرية وبدأت تبطش بعنف أكثر لاستئصال المقاومة الفلسطينية.
[caption id="attachment_120757" align="alignright" width="193"] الشيخ محمد أبو جغب[/caption]كانت المجموعة التي نفذت مهمة الاغتيال بقيادة البطل محمد أبو جغب، ومعه الشيخ محمود الديراوي هي واحدة من مجموعات "الظاهرة القسامية" التي عملت خلال سنوات الثورة على اغتيال سماسرة الأراضي واستهداف المتآمرين على القضية الفلسطينية، وهؤلاء من طلاب الشيخ عز الدين القسام الذين حملوا لواء الجهاد خلال الثورة التي انطلقت في 15/4/1936، وقد حاولوا اغتيال أندروز مرتين قبل ذلك لكنه نجا من الموت.
كان اغتيال أندروز قتلاً بالرصاص هو النهاية العادلة لرجل ساهم في إنشاء عشرات المستوطنات والتجمعات الصهيونية في منطقة الحولة وبيسان وصفد والجليل، وذلك عبر نقل الأملاك الحكومية للمؤسسات الصهيونية والضغط بقوة الدولة على بعض البدو وملاك الأراضي لبيع أملاكهم لليهود، وأسهم بنقل آلاف الدونمات لليهود خلال السنوات (1922-1937)، حتى أن الحركة الصهيونية اعتبرته واحداً من أبنائها لما قدمه لهم من خدمات جليلة.
وقد زاد من غضب القساميين على أندروز شهادته أمام اللجنة الملكية "لجنة بيل" لصالح اليهود في منطقة الجليل وهو ما أسهم في إعطاء منطقة الجليل حسب قرار التقسيم لليهود.
فلسطينياً شكل اغتيال أندروز بارقة أمل بجدوى المقاومة وفاعليتها، فخرج الناس في المدن يرقصون ويغنون ويوزعون الحلوى، وتجددت بهذه العملية المقاومة التي كانت تمر بوتيرة أقل خلال الأشهر الأولى من العام 1937 وانطلقت فصائل الثورة للعمل من جديد بشكل قوي وهو ما يصطلح على تسميته المؤرخون "شرارة المرحلة الثانية من الثورة". وبذا يكون القساميون هُم من فجر الشرارة في كلا المرحلتين من الثورة.
لاحقاً تمكنت بريطانيا من اعتقال الشيخ محمد أبو جغب بطل عملية الاغتيال وخليته الفدائية وتم سجنهم وتعذيبهم بوحشية لا توصف، غير أنهم تمكنوا من الفرار من السجن في 14/3/1941 وتمكنوا من مغادرة البلاد والنجاة بأرواحهم.