في أزقته المعتقة انتشرت رائحة الأسئلة في أنفاسي، أما آن الأوان لساكني هذه الجدران أن يفرحوا؟
تيهاً تدور عيونهم انتظاراً لطرقته الأولى فهم لا يطلبون منه شروط استئذانٍ ليسلم، ليطرق " فرح " أبوابهم، ليستأنسوا من قبل صلاة الحب أو من بعده، منذ متى لم يغازل شرفةً ذبلت ملامح الشمس بين شفتيها؟. ترى ماذا يعني لهم الفرح؟ هل له طعم ولون؟ أو ما هو شكله هل يمكن أن يُلمس يوما؟!
أعادني من سفر الأسئلة مجموعة من الأشخاصِ على ناصية الطريق، كانت قد جمعتني بهم مقاعد الدراسة. فسألتهم أول ما سألتهم: ما هو الفرح لديكم؟ فأجابني أحدهم متسرعاً وكأنه على موعدٍ مسبق مع سؤالي: صرخةُ طفل، أقبل للحياة للتو.
بينما قال حالم آخر لم أشعر بأن قدميه مستويتان فوق الأرض للبت: الفرح أنثى أحببتها فتزوجتها.
صعّد وتر المقطع الموسيقي في أذني أكثرهم حدة وأقربهم للواقع في المخيم قوله الصارم: مالٌ أجنيه فأغادرُ هذا المخيم.
كان لقائي بهم أشبه بحلم ما بعد الأمل. أكملتُ سيري أتلمسُ طريق الفرح في مخيمٍ عصي عليه، مخيمٍ ممزوج باليأس، بالحزن، بتشكيلات الزمن، بألم اللجوء، قد تجد هنالك القليل من الأمل والفرح، وجدتني الساعة أتلمسه فلعلىّ أجده متكئاً على أحد أبوابه.
يتسعُ ناظري لمتابعةِ طيف مجاهر بالنور، من ألوانِ قوس قُزَح يخرجُ من أحد الأبواب بشكل بلوري معلق بخيوط طويلة، تداعب أزقة المخيم، ظننتُه طفلًا يحملُ السماء المعبأة بالنجوم بأطرافه الحرة، ليفاجئنِي المخيمُ أن حاملَ البالونات ستيني! ارتسمت على وجهي علامات المفاجأة.
قلت في نفسي ربما كان مخبولاً. لا لا قد تكون ذلك رغبةَ حفيده؛ أجبره على شرائها طمعاً في قُبلة، لاحقتُه بنظراتي، ستيني متوسط القامة، التجاعيد تملأ وجهه، حواجبه كثه، شاربُه خفيف، يخالط شقاره بياض السنين، يدندن مبتسماً نوتة السلام، قطع الأزقةَ برشاقةٍ ملحوظة، وصولاً إلى ساحة المخيم، ترصد مكانه هناك عن كثب كيف استقبله أطفال المخيم مهللين، مُرحبين. كلٌ على طريقته، فيما يتهافت جميعهم للحصول على بلونه تابعتُ المشهدَ مستمتعاً بكمّ الفرح الذي جَمعه هذا الطفل الستيني! بحركاتِ يديه، وتعبيرات وجهه الجميل،
يجبُرك العم محمود على الإبتسام، يمازح هذا، ويلاعبُ ذاك، ويقترب من طفل يغني معه أغنية ً لفيروز تشدو بها طيري يا طيارة طيري ... ثم يحورّها ليكون للبالون دورٌ بارزٌ فيها، ما إن ينتهي منها، حتى يهدي أحد بالوناته إلى هذا الطفل وهكذا مع كل الأطفال تقريباً، حتى ينهي الرجل ما بجعبته من بالونات، ينتهي موسم الفرحِ هنا، دون أن يدفع أي طفلٍ فلساً واحداً مقابل بلونه وما يزيدُ دهشتِي أن الابتسامة لم تغادر وجناتِ هذا الرجل.
لحظةٌ من الصمت عمّت المكان، التقت فيها الأعينُ، وكأنه قرأ ما يجولُ بخاطرِي ثمّ ابتسم لي، وتلمس طريق العودة لبيته، فلحقت به، وما أن هم بدخول منزله القابع في جوف المخيم، حتى استدار نحوي بشكل مباغت وقال لي: تشرب شاي؟!
منزل بمخيمٍ جميل، تجولت ببصري فيه، أعجبني أصيصُ الياسمين البلدي الذي يعبق في المكان، على الجانب الأيمن تتربع صورة كبيرة للقدس، من الجبس، مكتوب أسفل منها بخط اليد بشكل كبير
"عيوننا إليك ترحل كل يوم" وعلى الجانب الأيسر غرفة مغلقه، بل يبدو أنها مهجورة.
شربنا شايه بالنعناع، وقليلٌ من السكر، تجاذبنا أطرافَ الحديثِ الجميل، المضحك المبكي، علمتُ منه أنه متزوج منذ 35 عاماً. ولم يرزق بأطفال مطلقًا رغم إلحاح زوجته بأن يتزوج من ثانية، لكنه آثر أن يعيشَ مع من اختارها قلبُه، رافضاً أن يفرح هو بطفلٍ دونها، وعن سرِ الغرفة ذات الباب المهترئ، قال لي: أنها كانت غرفة طفله الذي لم يأتِ.
سألتُه بخجل عن قصة البالونات؟
فأخبرني: أنه يوزعُ البالونات منذ عشر سنوات رغبةً في تعويضِ ما حرم منه، قائلا لي: أنا اشترى الفرح يا بني؛ فابتسامةُ طفلٍ تعادل الدنيا، وأنا كتوفيق زياد "أعطي نصف عمري، للذي يجعل طفلاً باكياً يضحك وأعطي نصفه الثاني، لأحمي زهرة خضراءَ أن تهلك" وأنا يا صديقي زهرةُ عمر أخاف أن تهلك.