فلسطين - خاص قدس الإخبارية: لعل فكرة الهرب من أحد سجون الاحتلال المحصنة بأقصى درجات الحماية الأمنية، تكاد تكون مستحيلة، خاصةً وأن الحفاظ على الهروب والاختفاء خارج أسوار السجن لا تقل صعوبةً عن داخله، لكن المنظومة الأمنية التي تقوم عليها دولة الاحتلال لم تمنع الأسير الفلسطيني حمزة يونس من الهرب ولثلاث مرات من السجون، بعد أن حكم عليه في آخرها بالسجن 7 مؤبدات أي ما يقرب 365 عامًا!
حمزة يونس هو بطل ملاكمة سابق وعميدٌ في قوات العاصفة التابعة لحركة فتح، ولد في قرية عارة العربية في المثلث الشمالي جنوب مدينة حيفا المحتلة، تدرب على الملاكمة ليدافع عن نفسه، حتى حصل على بطولة الناشئين عام 1962، واستمر بحصد الألقاب حتى حصل على البطولة في مباريات طبريا المحتلة.
تحوّلت حياته منذ أن نشب شجارٌ بينه وابن عمه مكرم وبين موظفٍ أهانه في محطةٍ للوقود، فما كان من يونس ومكرم إلا أن ردّا عليه وعلى عدد من المستوطنين الذين تجمهروا حولهما ليعلن لاحقًا إصابة أحدهم بارتجاجٍ في المخ، توجه حمزة ومكرم بعد المشاجرة إلى غزة، يروي حمزة تفاصيل ما جرى في حوارٍ مع قدس الإخبارية قائلًا "قابلنا رجالًا من المخابرات المصرية التي دفعتنا إلى العودة للأراضي المحتلة، لنجد أبواب سجن عسقلان مشرّعةً أمامي في الأول من نيسان عام 1964، ووجهت إلينا 7 تهمٌ هي مغادرة البلاد والعودة إليها دون تصريح، والاتصال مع العدوّ، وتزويد العدوّ بمعلومات تضر بأمن الدولة، وخيانة الدولة، وإخفاء معلومات عن رجال الأمن، والإصرار على الاتصال بالعدوّ".
يذكر حمزة في مذكراته التي وثّقها في كتاب أسماه "الهروب من سجن الرملة"، أنه كثيرًا ما كان يفكر عن سؤال يدور في ذهنه حول سبب تفكير بالهروب، فيقول "كلما خليت إلى نفسي سألتها: “هل أستطيع أن أنتصر على (إسرائيل) منفرداً؟ لست مسلحاً ولا حتى مدرباً على السلاح، فهل يمكن أن أحرز نصراً على ترسانة السلاح والطائرات ودولة الجيش والشرطة والأمن وكلاب الأثر؟"، ولكنه كان يمتلك القوة والجرأة الكافية لأن يفعل ذلك حقًا، وكان قد طلب من محاميه الذي وكلته العائلة له ولابن عمه، بألا يعود إليهم وألا يطالب بزيارة الأهل لهما، وحين سئل عن السبب أجاب، "لا أود انتظار حكم المحكمة الذي لن يقل عن 15 عامًا، وأنا لست مستعدًا للمكوث عامًا واحدًا في السجن".
حمزة ومكرم مع أسير عربيٍ ثالث يدعى حافظ مصالحة، أعدوا خطتهم التي تعتمد على عنصري المباغتة والجري السريع، ففي ليلة السبت 17 نيسان 1964، طلب حمزة من سجين يهودي هو الأصغر سنًا، ليستدرج حراس السجن الثلاثة، ثم أجهز حمزة ورفيقاه عليهم بالضرب، ثم اشتبكوا بالأيدي والكراسي مع الحراس الآخرين، وبمطاردةٍ مع إطلاق نارٍ عشوائي انتهت بتمكن ثلاثتهم من الهروب صوب البحر حتى لا يتمكن الاحتلال من ملاحقتهم بسهولة، وتسبب الهروب الأول لحمزة ورفيقاه بإقالة مدير السجن و5 من العاملين تحت إمرته واستجوابه في الكنيست.
في غزة حط حمزة رحاله بعد رحلة الهرب الناجحة، حيث أصبح مقاتلًا قويًا وشرسًا في صفوف القوات الشعبية، ومع نكسة عام 1967 واحتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية، استمر في القتال حتى نفذت ذخيرته رافضًا الاستجابة للأوامر المصرية بالانسحاب، ليقع أسيرًا في يد الاحتلال للمرة الثانية وهو مصابٌ في قدمه.
كان وقوع حمزة يونس الذي اختار البقاء في موقع القتال مصابًا على أن يخليه منسحبًا، وهو ذات الأسير الهارب من سجن عسقلان قبل أعوام، أمرًا مثيرًا لشماتة ضباط الاحتلال الذي اعتقلوه، يتحدث عن تجربة الهرب الثانية قائلًا: "رغم أنني كنت مصابًا والجبيرة على قدمي إلا أن الحراسة كانت مكثفةً حولي، ومع ذلك فكّرت في الهروب أيضًا فبعد إزالة الجبيرة عن قدمي في الساعة العاشرة والنصف، حلّت الساعة الثانية عشر والنصف وأنا خارج المشفى في طريقي إلى بلدتي عارة".
من بلدته عارة مرورًا بالضفة الغربية والعاصمة الأردنية عمّان ثم إلى العاصمة اللبنانية بيروت، هكذا رسم حمزة خط مسيره حيث انضم إلى صفوف حركة فتح وشارك إلى جانب مقاتليها في العمل الميداني وتشكيل الخلايا المقاتلة في الجليل المحتل، والتجهيز للعديد من عمليات الثورة الفلسطينية، قبل أن يعتقله الاحتلال مجددًا عام 1972 على متن زورقٍ بحري محملٍ بالسلاح أمام شواطئ حيفا المحتلة.
تعرض حمزة لتعذيب شديد، لم يدفعه للاعتراف عن أيٍ من رفاقه الثوار، يتحدث قائلًا :"أثناء التحقيق سخر مني المحققون، وقالوا لي إسرائيل دولة أمنية وقد هربتَ منها مرتين، فكيف ستهرب منّا الآن!".
يكمل حمزة عن ذلك الاعتقال "أنزلت المحكمة بي حكمًا بالسجن 7 مؤبدات أي ما يقرب من 365 عامًا، وحينها سألني أحد الصحفيين الذين حضروا الجلسة، كيف ستقضي في السجن بعد هذا الحكم، فأجبتهم بأنني سأمكث في السجن عامين فقط ثم سأهرب مجددًا"، ومن المحكمة إلى سجن الرملة المعروف بشدة حراسته والذي لم يتمكن أحدٌ من الهروب منه منذ إنشائه، ليبدأ حمزة التفكير في الهروب الثالث.
يستذكر حمزة الليالي التي كان يقضيها في سجن الرملة وهو يفكر في طريقةٍ للهرب، فيقول "كان رفاقي في السجن يروني مستيقظًا في الثانية عشرًا ليلًا، ونتحدث عن محاولات الهرب، إذ كانوا يقولون لي دائمًا: نحن أقوى منك وأقدم منك في هذا السجن لكن أحدًا منّا لم يستطع الهرب، فهل ستتمكن أنت!".
كانت إجابة حمزة على تساؤلات رفاقه في السجن متمكنة ومتيقنة إذ رد عليهم بقوله "لا بد من وجود نقاط ضعف في السجن، وأنا سأكتشف هذه النقطة خلال عامين، وكل من حاول الهرب ولم يفلح، لم يكن يفكر كما يجب!"، ولم يكن تعهده بالهروب أمام رفاقه الأسرى فحسب، فقد صرّح بذلك أمام مدير سجنه قائلًا له "سأخرج من السجن خلال عامين ودون موافقتك!"، وهو ما حصل فعلًا في العام 1974.
ارتدى حمزة ورفيقاه محمد قاسم وسمير درويش (ابن عم الشاعر الراحل محمود دويش) ملابس خضراء اللون تتنناسب مع ساحة السجن التي كانت معشبةً ومزروعة، ليسهل عليهم الاختفاء فيها أثناء الهروب، تخطى ثلاثتهم نقطةً أمنيةً وبرجًا للمراقبة على يمين طريق السجن وأخريين على يساره، واجتازوا جدار السجن البالغ 5 أمتار من الخرسانة ومترين من الأسلاك الشائكة يعلوها 20 سم جهاز الإنذار، بعد أن تمكنوا من قطع التيار الكهربائي والمولد الاحتياطي، ولم يكن لديهم سوى 7 ثوانٍ هي الفاصلة قبل انطلاق جهاز الإنذار، ودقيقتين لتجاوز الإضاءة الخارجية الكاشفة حول سور السجن".
لكن ما لم يكن بحسبانهم هو تعثر رفيقهم سمير درويش بالسياج، وعدم تمكنه من اللحاق بحمزة ومحمد اللذان أكملا مسيرهما عبورًا بالأراضي الزراعية المحيطة بالسجن، والتي وفقًا لما يقوله حمزة لم يكن سهلًا إخفاء الآثار فيها خاصةً وأن الاحتلال يستخدم قصّاصي الأثر لملاحقة الهاربين، ورغم وجود مستوطنات يهودية وموقعًا عسكريًا في محيط السجن، إلا أنهما أكملا السير لمسافة مئتي متر على الأقدام وتحت المطر لإزالة آثارهما، واستمرا حتى وصلا إلى الغابات القريبة من تل أبيب المحتلة حيث مكثا هناك يومين قبل أن يتسللا إلى قرية الشيخ مونس الواقعة على بعد 9 كيلومتر شمال مدينة يافا المحتلة.
رحلته مع الاعتقال لم تتوقف عند سجون الاحتلال، فخلال حرب الخليج الأولى عام 1980 اعتقلته السعودية وهو ورفيقه عفيف جهاد وحكمت عليهما بالإعدام بتهمة إطلاق النار على باصٍ لجنود أميركيين في جدة، قبل أن تتدخل قيادة منظمة التحرير لتخفيض الحكم إلى 7 سنوات، وما أن لبثا في السجن عامين ونصف حتى خرجا بعفوٍ ملكي.
ينظر حمزة إلى حال الأسرى الفلسطينيين اليوم بشيءٍ من الأسى، إذ يرى بأن التضامن معهم شبه معدوم مقارنةً بالماضي، حيث يقول "كانت فصائل المقاومة في الماضي تنفذ عملياتٍ خاصة لدعم الأسرى والانتقام من هجمية الاحتلال بحقهم"، مؤكدًا أنهم مسؤولية الشعب الفلسطيني بأكمله، "فلا يعقل أن نبخل عليهم بوقفةٍ أو اعتصامٍ أو تضحية"، على حد قوله.
"يستطيع الشعب أن يفعل ويقدم أي شيءٍ لدعم الأسرى حيث لا يوجد مستحيل في قاموس الشعب"، يقول حمزة مطالبًا بتحركٍ أقوى لدعم الأسرى الذين يخوضون معركة إضراب الكرامة، منوهًا إلى أن الاحتلال يسعى لاحتواء الحراك الشعبي وعدم إراقة الدماء خلاله لأنهم "لو قتلوا شابًا أو اثنين لأحدثت دماؤهم ثورةً كبيرة".