جنين – خاص قدس الإخبارية: "لقد نامت أمك، دعها ترتاح ولا تتحدث معها" قال وهو يدير لطفله المنهك الذي اقترب من والدته الممددة وهو يردد "كيف غفت عيناي عنها.. كيف نمت".
بهدوء اقترب مهند (12عاما) وجلس بجانبها، يدها باردة جدا فبدأ بتدليكها وهو يسترق السمع لدقات قلبها التي تلاشت.
" يما.. يما" نادى مهند، ووالدته مريم وشاحي لا تلبي نداءه، ليقرر حينها رفع شالها الأبيض عن وجهها بعدما أن اتسعت عليه بقعة الدم، ليدرك حينها أن والدته استشهدت، "يما استشهدتي مثل ما تمنيتي تماما ولحقتي بصديقتك أم العبد الزبيدي" همس مهند لوالدته.
بهدوء ودع مهند والدته خوفا أن يوقظها، قرأ لها الفاتحة وقبّل وجنتها ثم غطى وجهها مرة أخرى، فها مريم تفارق طفلها وزوجها اللذين حاولا طوال الساعات الطويلة الماضية أن يبقياها برفقتهم ولو لحظة إضافية، إلا أن دماءها بقيت تنزف.
"مريم لقد نصبوا قناصة جديدة في الحي.. تمرير الطعام للمقاومين مستحيل مستحيل"، قال مروان لزوجته مريم التي تواصل العجن استعدادا لتحضير الفطور للمقاومين المتمركزين بالقرب من منزلها في مدخل مخيم جنين.
الرابع من نيسان ٢٠٠٢، دثرت مريم العجين جيدا، ثم وقفت أمام النافذة محاولة العثور على القناصة وهي تفكر بالطريقة المناسبة لتمرير الفطور للمقاومين.
يقترب مهند وهو يفرك عينيه من النافذة محاولا مع والدته البحث عن القناصة، وبعد فشله، توجه لغسل وجهه فربما هكذا ستعمل عيناه أفضل، وفجأة اهتز المنزل وعم الهدوء لحظات قبل أن يدوي نداء مروان "مريم.. مهند".
يجيب مهند نداء والده، "أبقى مكانك لا تتحرك" يقول مروان لطفله فيما الغبار يملأ المكان وما أن تلاشى، ركض باحثا عن مريم ليجدها ممددة على العجين الذي كان ينتظرها، تنزف الكثير من الدماء ولا تجيب نداء زوجها وطفلها.
يروي مهند لـ"قدس الإخبارية"، "كانت أمي ممددة على العجين وقد أصيبت بشظية في رأسها وأخرى في صدرها (..) فجنود الاحتلال في البناية المقابلة أطلقوا تجاه أمي قذيفة من نوع (لاو)".
"منير.. منير" بقيت تردد مريم منادية على نجلها المقاوم، فيما محاولات إخراجها من البيت مستحيلة، فالدبابات في كل مكان وقناصة الاحتلال تطلق النار على كل جسم متحرك.
ليدرك مهند فيما بعد لماذا لم تناد عليه والدته وبقيت تنادي على شقيقه منير وشقيقته وزوجها، "بعد إصابة أمي، أصيب أخي منير وبقي ينزف لليوم التالي حتى استشهد، فيما نجت شقيقتي وزوجها في ذات اليوم أيضا من قصف استهدف منزلهم"، يكمل مهند حديثه لـ"قدس الإخبارية".
رغم فراق مريم الصعب إلا أنه لم يفاجئ طفلها مهند الذي هيأته وأشقاءه كثيرا لقدوم هذا اليوم الذي سترتقي فيه شهيدة، فكانت تردد دائما "كان يجب أن استشهد في الانتفاضة الأولى".
يقول مهند: "أمي لم تقدم فقط في معركة جنين، فطول عمرها كانت تقدم للمقاومين وتدعمهم وتحميهم وتستقبلهم في منزلها".
مريم لم تكن والدة أبنائها فقط، بل كانت أم كل المقاومين في المخيم، في ساعات الصباح تحضر لهم مناقيش الزعتر والجبنة، وعند وقت الغداء تطبخ لهم ما في بيتها من الطعام.
ويذكر مهند أنه في اليوم الثاني من الاجتياح طبخت والدته طنجرتين كبيرتين للمقاومين، ولكن انتشار القناصة صعَّب وصول الطعام للمقاومين، "قامت أمي بربط الطنجرتين بحبل ورمي الحبل للمقاومين الذين بدأوا بسحبهما".
حتى اليوم الثالث من الاجتياح بقي مهند بعيدا عن والدته لتصر عليه أن يقطع الشارع ويعود لحضنها، "طلبت مني أن أردد الشهادتين واسمي بالله ثم اقطع (..) لقد كانت مصرة أن أعود للبيت رغم صعوبة الوصول إليه"، يضيف مهند لـ قدس الإخبارية.
أما منير نجل مريم الآخر، والذي كان طالبا متوفقا في الثانوية العامة فقط انضم لصفوف المقاومين منذ بدأ الاحتلال التلويح باجتياح المخيم، يقول مهند: "مرة جاء أصدقاء منير وحقائبهم ممتلئة بالأكواع وقالوا لوالدتي إنهم يريدون أخد منير ليدرسوا سويا" فردت مريم، "لا تكذبوا علي أنا أعرف طريقكم جيدا فاذهبوا وأنا سأواصل الدعاء لكم".
في الخامس من نيسان أي في ذات اليوم الذي استشهدت فيه، أصيب منير أثناء تفقده عبوة زرعت في ساحة المخيم بغرض تفجيرها أثناء مرور دبابات الاحتلال، "عندما نزل منير لتفقد العبوة تفاجأ بتمركز أحد القناصة مقابله تماما، ليتلقى رصاصة بصدره مباشرة ليبقى ينزف حتى استشهاده في اليوم التالي".
وعن دور والدته أيام معركة جنين الأولى، يروي مهند أن والدته لم تكن تعد الطعام فقط للمقاومين بل كانت تحثهم وتشجعهم على المقاومة والجهاد، "لقد كانت عنوانا للقوة والتحدي، يقتدي المقاومين بها".
ويروي مهند لـ قدس الإخبارية، أنه في إحدى المرات وخلال تمركز الشهيد محمود طوالبة في الحي برفقة مقاومين آخرين، قالت له مريم، "دوري لا يقل عن دور واحد فيكم .. أريد أن أقدم مثلكم واستشهد"، فرد الشهيد طوالبة، "ما تقديمه هو أكبر دور تستطيعين تقديمه لا يقل عن دورنا أبدا".
قبل عدة أيام من حلول ذكرى استشهاد مريم الخامسة عشر، احتفل مهند أصغر أبنائها بحفل زفافه بفرحة لم تحضرها والدة العريس الذي أصر أن يكون عرسه قبل ذكرى استشهاد والدته، "أذكر كل مشاهد حياتي التي جمعتني وإياها، أذكر كل تفاصيلها ولا أنساها (..) وبعد ١٥ عاما على فراقها ما زلت أعيش صدمة استشهادها أمام عيني وأنا عاجز عن إنقاذها".