أثار إعلان حماس عن قرب إطلاقها وثيقة سياسية جديدة؛ سجالا حول ما قيل عن تحولات في فكر الحركة السياسي تضمنتها الوثيقة، وفتح المجال لمقارنات -تتسم بالحساسية- مع ما اقترفته فتح حينما أقدمت على تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني عبر قيادتها لمنظمة التحرير.. فهل من جديد في وثيقة حماس؟
نظرة تاريخية
نُشر ميثاق حماس في 18 أغسطس/آب 1988، أي بعد تأسيس الحركة بثمانية شهور فقط، وهي في ذروة انغماسها في الانتفاضة التي انبثقت الحركة داخلها، وفي أجواء الانتفاضة، والسياقات الدعوية والإخوانية التي تولدت منها الحركة، ودون سابق تجربة سياسية، ومن داخل الأرض المحتلة، كُتب الميثاق.
"نُشر ميثاق حماس في 18 أغسطس/آب 1988، أي بعد تأسيس الحركة بثمانية شهور فقط، وهي في ذروة انغماسها في الانتفاضة التي انبثقت الحركة داخلها، وفي أجواء الانتفاضة، والسياقات الدعوية والإخوانية التي تولدت منها الحركة، ودون سابق تجربة سياسية، ومن داخل الأرض المحتلة، كُتب الميثاق"
انطبع الميثاق تلقائيا بسمات الإخوان الفلسطينيين في الداخل، منعكسا عن مجالات اشتغالهم الدعوي، وعن تجربتهم السياسية المحدودة، وكاشفا إما عن فقر نظري بأدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية، أو عن رغبة لحوحة في التمايز، إذ لم يُبد استفادة واضحة مما أنتجته الحركة الوطنية في هذا المجال، بما في ذلك الميثاقان القومي والوطني.
وفضلا عن فرقاء الساحة الفلسطينية، ورغم ما قيل عن ظروف ولادته، تعرض الميثاق حينها للنقد من قيادات حماس الخارجية، والتي يبدو أنها لم تكن قد تبلورت بعد بشكل كاف على نحو يتيح لها المساهمة في صياغة الميثاق، ونقل صياغاته من السرد المغرق في التنظير الإيديولوجي ذي الطابع الدعوي السجالي إلى مواد سياسية وقانونية دقيقة.
فعليا تجاوزت حماس الميثاق سريعا، لغة، ومضمونا في بعض جوانبه، فبينما رفض الميثاق الانضمام لمنظمة التحرير، قاصرا أسبابه على اعتبارات إيديولوجية صرفة (علمانية المنظمة ومطالبته بتبني الإسلام منهج حياة)؛ تحالفت حماس عام 1993 مع عدد من الفصائل الفلسطينية، منها فصائل ماركسية، فيما عرف بتحالف القوى الفلسطينية الرافضة لأوسلو، أو تحالف الفصائل العشرة.
ومنذ العام 1990 تراجع الموقف الإيديولوجي من المنظمة نسبيا، كما في مذكرة حماس التي أرسلتها في ذلك العام إلى الشيخ عبد الحميد السائح، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني في حينه.
ثم لم تعد المسألة الإيديولوجية في العلاقة مع المنظمة حاضرة، بل انتهت تماما، كما في إعلان القاهرة في العام 2005، وما تلاه وصولا إلى اللحظة الراهنة، لحظة الوثيقة التي تتناول موضوع المنظمة سياسيا وإداريا وتمثيليا لا إيديولوجيا، بما يجعل مادة المنظمة في الميثاق منعدمة من الناحية الإجرائية والسياسية.
بعد ذلك أصدرت الحركة جملة من الوثائق أكثر تسييسا، وتضيف مادة نظرية جديدة تتجاوز بها الميثاق فعليا، كما في المذكرة التعريفية التي أصدرتها الحركة في العام 1993، بالإضافة لعدد كبير من الوثائق تخللت نشاطها السياسي، وتضمنت مواقف سياسية مستجدة، ولاسيما منذ فوزها بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006 فصاعدا.
الوثيقة الجديدة
لم تقترب الحركة من الميثاق، بالرغم من إشكالات أثارها الميثاق في وجهها، مثل اعتماده لغة تهاجم اليهود، هي من وجه ما تتماهى مع اللغة الفلسطينية الشعبية، وحتى العربية والإسلامية، السائدة، لكنها تفتقر إلى الحس السياسي، وسهل ذلك اتهامها بمعاداة السامية رغم أن الحركة كفت عن استخدام تلك اللغة، وجنحت للتعبير عن عدوها بوصفه "الكيان الصهيوني"، وأكدت مرارا على أن صراعها مع المشروع الصهيوني لا يتعلق بديانة اليهود، وهو ما عالجته حماس بالتفصيل في وثيقتها الجديدة حين تناولها المشروع الصهيوني.
ورغم الكثير من النقاش الذي دار تاريخيا في أوساط حماس، فقد امتنعت عن إعادة صياغة الميثاق، ربما، في بعض الأسباب، خشية من مقارنة ذلك بما فعلته منظمة التحرير عام 1996 بالميثاق الوطني الفلسطيني عندما شطبت منه الثوابت الأساسية للشعب الفلسطيني.
تقدم الحركة اليوم -ربما استشعارا للحاجة- وثيقة جديدة، ليست بديلا للميثاق، وإنما إضافة تتضمن تركيزا سياسيا، لا يقطع مع ثوابتها المعروفة، ولكنه يعيد صياغتها بلغة أكثر ضبطا ودقة، ويحررها في الوقت نفسه من مشكلات الميثاق، إن مشكلات الصياغة، أو مشكلات بعض المضامين.
تعرف الحركة نفسها في الوثيقة، بأنها "حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية"، وهي بهذا تجمع ما بين وظيفتها الراهنة، أي مقاومة الاحتلال بما هي عملية دفع للعدوان، ووظيفتها الدائمة بما هي حركة تحرر، وهذا يقتضي أن يكون للحركة برنامج اجتماعي بالإضافة لبرنامجها السياسي، كما أنها تدفع بذلك الفصل المتعسف بين الوطنية والمرجعية الإسلامية.
"تقدم الحركة اليوم -ربما استشعارا للحاجة- وثيقة جديدة، ليست بديلا للميثاق، وإنما إضافة تتضمن تركيزا سياسيا، لا يقطع مع ثوابتها المعروفة، ولكنه يعيد صياغتها بلغة أكثر ضبطا ودقة، ويحررها في الوقت نفسه من مشكلات الميثاق، إن مشكلات الصياغة، أو مشكلات بعض المضامين"
وبينما تحدد الحركة أهدافها في ميثاقها بـ "منازلة الباطل وقهره ودحره، ليسود الحق، وتعود الأوطان، وينطلق من فوق مساجدها الأذان معلنا قيام دولة الإسلام"، فإنها في وثيقتها الجديدة تحصر هدفها بـ "تحرير فلسطين، ومواجهة المشروع الصهيوني"، دون أن تقطع مع مرجعيتها الإسلامية التي أكدت عليها في مواضع متعددة من وثيقتها، غير أن هذه المرجعية لا تحضر حاجزا إيديولوجيا في مرحلة التحرير كما كانت عليه في الميثاق.
حين الحديث عن المرجعية، وعلى خلاف الميثاق الذي ذكر الإخوان ست مرات وأكد أن حماس جناح من أجنحتهم، يغيب عن الوثيقة ذكر الإخوان، دون النص على فك الارتباط بهم، وهذا وإن كان يبدو منسجما مع الظروف الراهنة التي حملت عددا من التنظيمات الإخوانية على الإعلان عن فك ارتباطها بالجماعة، إلا أنه يأتي امتدادا لخطاب حماس السياسي المقدم لما هو خارجها، الذي يمتنع عادة عن الإشارة لطبيعتها إن كانت جماعة إخوانية في فلسطين، أم لا.
وعلى خلاف الميثاق أيضا، تستفيد الوثيقة استفادة واضحة، من الميثاقين القومي (1964) والوطني (1968)، كما في تعريف فلسطين، وتعريف الشعب الفلسطيني، وعدها منعدما كلا من تصريح بلفور وصك الانتداب وقرار التقسيم.
وتزيد الوثيقة في بعض ما استفادته من الميثاقين، التأكيد والتحديد، فبينما يتحدث الميثاقان القومي والوطني عن فلسطين "بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني"، تحدد وثيقة حماس حدودها بدقة، وبينما يتحدث الميثاق الوطني عن الشخصية الفلسطينية بأنها صفة أصلية لازمة لا تزول وأن الاحتلال الصهيوني وتشتيت الشعب الفلسطيني لا يفقدانه شخصيته وانتماءه الفلسطيني، تضيف الوثيقة إلى ذلك، أن حصول الفلسطيني على جنسية أخرى لا تفقده هويته، وهكذا.
يلاحظ في الوثيقة تأكيد حماس الشديد على ثوابتها، وهو الأمر السائد في مجمل الوثيقة، والمتكرر في معظم بنودها بصيغ متعددة صريحة وقاطعة، وفي كل الموضوعات، مثل أرض فلسطين، وشعب فلسطين، والقدس، والمسجد الأقصى، واللاجئين وحق العودة، والموقف من الاحتلال والتسوية السلمية، والمقاومة والتحرير، وغير ذلك.
لقد أكدت الوثيقة مثلا أنه "لا اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، وإن كل ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطل"، وأنه "لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين"، وأن حماس ترفض "أي بديل عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا"، وتعتمد حماس في الوثيقة وصف عدوها بالكيان الصهيوني، وإذا ذكرت "إسرائيل"، جعلتها بين مزدوجين.
هل من تحول جوهري؟
صحيح أن الوثيقة إضافة وليست تعديلا للميثاق، ويمكن احتسابها من جملة أدبيات حماس التي تضمنت مواقف سياسية غير منصوص عليها في الميثاق، وهي كثيرة، إلا أن تسميتها بـ "وثيقة المبادئ والسياسات العامة"، كما هو عليه الحال في مسودتها على الأقل، والتمهيد الذي تنتهجه حماس للإعلان عنها، والشكل الذي سيكون عليه الإعلان، يجعل لمضامينها أهمية خاصة، عما يمكن أن تكون عليه في أدبيات أخرى للحركة.
من ذلك فكرة الحل المرحلي، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة وعاصمتها القدس على خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967، وهي الفكرة التي منحت هذه الوثيقة معنى استثنائيا، أثار اللغط حولها قبل نشرها، وأوحى بتغير جوهري في فكر حماس السياسي.
فعليا تأسست حماس بعدما قطعت منظمة التحرير بقيادة فتح شوطا طويلا، تحولت فيه عن التحرير الكامل بالكفاح المسلح طريقا وحيدا لذلك، إلى "إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها" "بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح" في البرنامج المرحلي عام 1974، إلى الاعتراف الضمني بـ "إسرائيل" في العام 1988، وذلك بعدما تراجع المشروع الوطني عن التحرير إلى إقامة الدولة.
كانت حماس تعبيرا عن حالة تاريخية تتصدى لانحدار المشروع الوطني، دون أن تقطع تماما مع المعطيات التي كانت قد استقرت حين تأسيسها، ودفعت نحوها فتح، فأدخلت إلى خطابها فكرة الحل المرحلي مبكرا مقرونا بالهدنة وغير مقرون بها، ومقرونا بإقامة الدولة وغير مقرون بها، منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، كما في مبادرة رسمية من مكتبها السياسي عام 1994.
بصرف النظر عن الأسباب التي دعتها من موقعها حركة رافضة لانحدار الحركة الوطنية؛ للتعاطي الإيجابي مع هذه الفكرة، أو لتقديمها في صيغة المبادرة، سواء كانت لدفع العدمية عن نفسها، أو حينها اقتناعا منها بإمكانية تحويل الفكرة إلى برنامج سياسي، أو لتعبيد الطريق أمام حركتها السياسية وعلاقاتها الإقليمية والدولية، فإنها كانت عموما إجراء سياسيا لا مبدأ سياسيا.
"هذه الوثيقة ليست بالضرورة "برنامج النقاط العشر" الخاص بحماس الذي يمهد لها استنساخ تجربة فتح، إذ أدخلت الحركة إلى خطابها منذ وقت مبكر مفردات هذه الوثيقة التي تتقاطع مع برنامج النقاط العشر، كالحل المرحلي، وجعل المقاومة المسلحة جزءا من أساليب ووسائل مقاومة الاحتلال"
حتى عندما قبلت الحركة من بعد فوزها بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006، النص على إقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي المحتلة عام 1967 في وثيقة الوفاق الوطني، فإنها كانت تتخذ قرارا سياسيا منشؤه التدافع الداخلي مع فتح، ولا تكرس مبدأ سياسيا، وهذا بصرف النظر عن جدوى أو مخاطر طرح حركة تحرر وطني مبادرة في ظل الاختلال الفاضح في موازين القوى، وبعد النتيجة البائسة التي قاد إليها هذا المسار من قبل.
أما الآن فإن الحركة تجعلها مبدأ سياسيا، حتى لو كان بصيغة شديدة الحذر وفي قلب مادة تؤكد على رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني والتنازل عن أي جزء من فلسطين، وعلى نحو أقرب إلى التعبير عن الموقف من فكرة مطروحة منه إلى المبادرة، وحتى لو أكدت الحركة في بعض المواد على أن الدولة هي ثمرة التحرير.
وإذا كانت الحركة تفعل ذلك دعاية سياسية في المحافل الإقليمية والدولية، أو لأن هذه الأطروحة باتت جزءا من خطابها السياسي، فإنها تفعل ذلك بعدما صارت هذه الأطروحة من الماضي ومنعدمة الإمكان وبإعلان أصحابها، فضلا عن الخشية من أن يقود تكريسها مبدأ سياسيا الحركة إلى ذات مسارات فتح.
وعلى أي حال؛ هذه الوثيقة ليست بالضرورة "برنامج النقاط العشر" الخاص بحماس الذي يمهد لها استنساخ تجربة فتح، إذ أدخلت الحركة إلى خطابها منذ وقت مبكر مفردات هذه الوثيقة التي تتقاطع مع برنامج النقاط العشر، كالحل المرحلي، وجعل المقاومة المسلحة جزءا من أساليب ووسائل مقاومة الاحتلال.
كما أن الحالة الفلسطينية الراهنة تخلق بطبيعتها الارتباك في الفصل بين ما هو قرار سياسي أو مبدأ سياسي، وقد تجعل من ذلك متعذرا في بعض الأحيان، لكن النقاش النظري وتعزيزه مهم، ورفده ببرنامج سياسي -كما هو مفترض- لا يقل أهمية.
الجزيرة نت