أستيقظُ باكراً على رنين منبهِي الذي أعددته جيداً قبل أن أهم بالنوم، وكأنه سيوقظني فعلاً خلديُ!
تشيرُ الساعةُ إلى الرابعة والنصف فجراً أتوضأ استعداداً للصلاة، متجهاً لغرفة والدي، أفكر قبل مهمةِ إيقاظه ألفَ مرّة لماذا لا أدعه من كل هذا الشقاء، فلعله يكون بالجنة وأسرقه بفعلتي لدنياه البائسة، ولماذا أتركهم يقتلوا الإنسان فيه في كل مرة نذهب فيها هناك!
إيييه أحدث نفسي بأننا مقبلون على قطعة العذاب تلك، حيث يفصلنا عن الموت والحياة شعره. أنين وحشرجة تسيطر على أجواء غرفته، أحيانا يصمت، لا أدرى هل بقي ميتاً أم أنه وُهِب الحياة، لا يدلنِي على ذلك إلا إنصاتي لدقات قلبه الندّية، فما تلبث إلا أن تعلق بدقات قلبي، لترزقني بدورها الحياة.
أحنو بالقرب منه، أناديه بأحب الأسماء إليه، أداعب روحه ليستيقظ مبتسماً، نؤدي الصلاة جماعةً ثم أخرجه لفناء البيت، فهو يحرص منذ مرضه أن يتابع ميلاد الحياة فأجده شاهداً على باكورة أطيافِ الشمسِ، شاكراً لها ما تغزله فوقَ وجنتيه من تحياتٍ وابتسامات.
أتجه لغرفته مسرعاً، لمراجعة الأوراق الرسمية، الشهادات الطبية، التي تصِف حالته بشكل جيد، والتحويلة الطبية، وجوازات السفر. أجري مكالمة للسائق مؤكداً موعدنا، الطريق من مخيم المغازي إلى معبر رفح لا يحتاج إلى أكثر من 30 دقيقة، ولكن نوهم أنفسنا إذا حضرنا باكراً قد يكون لنا نصيب من السبق، فحالي كحال الكثيرين في أننا لا نملك تنسيقاً للدخول.
بوابة رفح، لعنة تلاحق الفلسطيني في حله وترحاله، الدخول والخروج منها أشدُ ألما من مخاض الأم قبيل الولادة، ها أنا أصل البوابةَ الخارجيةَ للمعبرِ بصعوبة، نظراً لتكدس المواطنين المحتاجين للسفر، وكأنه يوم الحشر.
أقضي ووالدي الذي يرقد فوق كرسيه المتحرك خمس ساعات متواصلات، على البوابة الخارجية للمعبر، من الجانب الفلسطيني، يسمح لنا بالدخول بعد أن تدهورت حالته الصحية أكثر، يبدو أن الحظ وقفَ هذه المرة في صفي، حتى اللحظة. نستقل سيارة من البوابة الخارجية حتى الداخلية، لقطع مسافة لا تتجاوز 400 متر تقريباً، ندفع فيها للسائق 10-15 شيقل أي ما يعادل 2$ للراكب الواحد.
أدخل الصالة الفلسطينية أسلم جوازات السفر للجهات المختصة، للتأكد من صلاحيتها وختمها، ثم وبعدَ جهدٍ جهيدٍ نفسيٍ أكثر من كونه جسدياً، يُحدد لي رقم الباص الذي سأتجه به من البوابة الفلسطينية إلى المصرية، في مرحلة الانتظار التي حاولت جاهداً أن أستجمع الأذكار فيها، أرهقتني قصصٌ شتى. خوف وترقب وكثير من الدعاء.
يتحكم الجانب المصري في هذه النقطة، نصعد الباص وأتعمدُ أن أُلفتَ انتباه والدي عن سيارات التنسيق التي تدخل إلى الجانب المصري دون عناء يذكر، ألفت انتباهه بالنكات أحياناً وبروح الدعاء التي يحب، أو بالحديث عن أمر ما يجذبه، فاستقرار حالته الصحية هو هدفي رغم كل الذي نمرّ به من ألم الانتظار.
يتوقف الباص رقم 10 الذي يسبقنا نصف ساعة أمام البوابة المصرية، دون السماح له بالدخول، تنفرج أساريرنا فورَ فتح البوابة، حركةُ الباصات منها وإليها، تشبه مدينة الملاهِي تماماً كيف كلما عبر باصٌ ما استقرت قلوبنا، وكيف يقرع النبض أفئدتنا كلما شعرنا بخيالٍ يعود أدراجه القهقرة!
أذكر وقتها أن الجانب المصري أعاد 60 مسافراً. تحتك عجلات البوابة المصرية فتهيم لها أرواحنا طرباً، تدور عجلات الباص دورتين كاملتين فقط، ليوقفنا جندي مصري يطالع الجوازات بشكل رتيب، يحاول أن يقضى أطول فترة ممكنة في ذلك، وكأنه يتلذذ في جلدِ أرواحنا، يحاولُ أن يضيف جواً من المرح الثقيل، موجها سؤاله لنا: عفين العزم إن شاء الله؟!
لو نطق الأموات وقتها لنطقنا، لكن لا يجرؤ أحدنا حتى على الابتسام فربما لا تعجبه ابتسامة أحدنا، فيأمر بعودة الباص من حيث أتى! يتابع متمتماً حتى تتضح نبرته موجهاً حديثه للسائق: بص حضرتك كده إنت تدخل جوا وترجع تلف تانى.
اصفرت الوجوه، كأن الدم تبخر من عروقنا فجأة، تعالت الشهقات زمرةً واحدة، لحظات كقرون من الزمن مرت، ليقاطعها هو بضحكته المتلونة، سامحاً لنا بدخول الجانب المصري.
تفتيش سريعٌ، وإهانات جارحة، نقابلها بصمت كئيب، رغبةً في الخروج من عنق الزجاجة هنا، شعورنا بأن لا شيء يستحق التفكير فيه، بل لم يعد لكرامتنا أي ثمن، مقابلَ أن نجتاز البوابة المصرية، لم يكن هنالك شيء أهم من ذلك البتة، طمعاً في العلاج، أو في مستقبل لا تُظهرُ ملامح وجهه البشرى أبداً.
كعلبة السردين حالنا؛ نفسي نفسي. أنّات المرضى، سخط المتأخرين، بكاء المعذّبين، بلادة الميتين، والتلذذ في إهانتك وتأخيرك عمداً، ألم انتظارٍ، وقلة تهوية، وسوء المعاملة الذي زاد من تدهور صحة والدي، أحاول تصبيره وبث الروح فيه ما استطعت لذلك سبيلاً، أشد معصمه، لتتسلل إلي من مسامات جلده، ذكرى أعادتني ثلاثة أشهر للوراء، عندما شخصت حالتَه بسرطانِ القولون بمستويات متقدمة، ليحوّل بشكل سريع لإسرائيل، فيمنع أمنياً هكذا دون أسباب تذكر.
لتكون وجهتنا بوابة الموت رفح. ينادى علي لضرورة التوجه لمكتب المخابرات لبحث سبب دخولي لمصر، أقدم كل ما بجعبتي من أوراقٍ ذبل عودها أكثر مني مما تعرضت له من ذل، أحاول أن أحظى بعطف القبول بفتات ما لدي من أمل، يطلب مني الخروج والتحلي بالصبر، أفكر كثيراً بما يعنيه الصبر هنا، وكم تجاوزناه، وكم وكم
كدهرٍ مرّت الساعات، تجمّدت أطرافي وازرقَ وجهِي، سمعتُ نداء كل الصلوات ولم أبرح مكاني، لا شيء متغير، إلا الوقت الثقيل، وقلة الباقين، والتدهور المستمر في صحة والدي، تشير الساعة الى التاسعة مساءً، يتقدم نحوي شخص بلباسٍ مدني يخبرني أن الحظ لم يحالفني وطلب مني تكرار الامر غداً أو بعد غد، إذ أخبرني أن المعبر سيظل مفتوحاً للحالات الإنسانية ليومين آخرين.
لقد أصابنِي في المقتل، لم أسمع حينها صوته، لم أسمع شيئاً، إضيفت الدنيا في بؤبؤ عيني ولم أعد أرى شيئاً لم أعد أرى إلا رمادَ أملي متناثراً في السماء، صرختُ بشكل هستيريٍ ولم أسمع صوتي!
انفجرت باكياً، مترجياً، مستجدياً، كدت أن أقبل قدمه، والدي، نعم إنّه والدي، اسمح لنا بذلك، اسمح لنا بالخروج فما عادت صحة والدي قادرة على الصمود أكثر، كدت أحمل والدي بين يدي وأنصبه أمام عينيه لعله يشفع لي ذلك، أستمر كمجنونٍ انظر لقد هده ألمه وما عاد يتحمل شيئاً فقط انظر إليه، يتابع والدي ذلك المشهد يشير لي ببصره أن كفى، يبتسم ابتسامة لم أرى لها مثيل، يسقط مغشياً عليه، نعود بشكل سريع للجانب الفلسطيني، أستقل وإياه سيارة إسعاف طارئة، يحاول المسعفون فيها إسعافه، يسابق السائق الريح لندخل قسم الاستقبال في مستشفى أبو يوسف النجار هناك يستجمع ما بقى له من قوة يتمم لأقترب منه يهمس بروحي ما لن أنساه ما حييت!
الموت أهون علي ألفَ مرة من أن أراك باكياً مترجياً. تشرق ابتسامته كما كانت تفعل الشمس كل صباح، ثم يسلم الروح لباريها