أمي قالت لي تلك الليلة: "تخفش يما هظول بنخفش منهم"، لكنها اغتسلت بدموعها التي لم أرها وأنا على كرسي الشبح في تلك الشهور الثلجية.. تدفأت بكلماتها، وهي أخذت البرد عني.. بعد ذلك تأكدت أن الحال كان كذلك بالفعل، تماما، حقيقة، بلا أي مسحة من مجاز، تمنحني الدفئ، وتأخذ عني البرد، رغم أني كنت في عسقلان، وهي في بيتنا في رافات.
تأكدت أيضا أنها كانت تبكي من رئتيها، من قلبها، من شرايينها، من عينيها.. حارة عيناها، تسبح في الدمع.. منحتني تلك الليلة القوة، وغرقت بعد ذلك في دموعها.
في اليوم التالي، أخذت أمي تستقبل المواساة من الأقارب، ولأنه كان الاعتقال الفعلي الأول، فقد كانت المواساة على النحو التالي: "بتعرفيش تربيه؟!"، "خليه داير مع تبعين حماس بدل ما يهتم في إمه وخواته"، "طيب شاطر في المدرسة، يخلص التوجيهي أول، ظيع حاله وظيع دراسته"، "البلاد مبيوعة مبيوعة، الي بروح بتروح عليه"... هكذا أحسنوا السلوى!
وحدها أمي التي لم تلمني، ولا مرة.. حتى إذا ضعفت في بعض الأحوال قالت "طريق واخترتها، بدك تتحمل".. كنت أتعجب أحيانا، وأنا في غاية ضعفي وهي تقول لي: "أنا يمّا تعلمت الصبر والرضا منك، بدك يمّا أقعد أعلم فيك هلكيت!؟".. يا إلهي! أنا يمّا علمتك الصبر والرضا، من وين بس يمّا!؟
لم أكن أفهم كيف تنسب لي أحسن ما فيها، وهو ليس فيّ.. ثم تبينت فيما بعد أنها هكذا ترى الأمر فعلا، لأن منطق الحساب لا وجود له لديها طالما تعلق الأمر بي، حتى تنقلب الحقيقة تماما، فأصير أنا في وعيها معلمها، وتنكر أي فضل لها في تعليمها لي! هكذا تحسّ فعلا! كيف كان لنا أن نستمر دون أمثالها!؟
كثيرا ما كنت أسأل بخصوص قصة أم موسى مع ابنها، وألحظ حضور النساء في حياته قبل النبوّة.. اليوم، اليوم فقط، قلت لنفسي: "وهل يحفظ سرّ الولد أحد كالأم!؟".، صدور أمهاتنا مدافن أسرارنا.. رموش عيونهن حراب تحرسننا.. وحيدة بلا أي تجربة سابقة، بلا زوج، ولا ابن، ولا أخ، ولا أحد.. أخذت تركض إلى المحامين، والصليب الأحمر، وتجهز أغراضي للزيارة، تحضر الطعام، وتجمع الفاكهة، وتشتري الكتب والمجلات والأشرطة، والمخلوطة (المكسرات) والقهوة، ثم من الرابعة فجرا تبدأ رحلتها إلى سجن مجدو.. لم تقل لي أبدا "يما ليش حرمتني من فرحة تفوقك في التوجيهي".. لكني علمت بحزنها العميق حينما بشروها بنجاحي من داخل السجن.. علامة توجيهي السجن ليست تلك التي كانت تحلم بها، وقد ظلت محرومة منها..
المرة التالية، وفي مطلع انتفاضة الأقصى، حزمت أغراضي وقررت مغادرة البيت، انهارت والدتي أمامي، لم تكن أمامي كما في المرة الأولى، ولكن بعد اعتقالي علمت أنها كانت قوية.. في الاعتقال الأول أرادت أن تمنحني القوة وتفرغ لحزنها على بعدي وفراقي وسجني.
في المرة الثانية، انهارت لأنها خشيت علي من القتل، وتماسكت بعدما صرتُ في السجن. السجن كاشف لحقائق أمهاتنا، ولا شيء يظهر تلك العظمة كأم تدخل محنة زيارة الابن في السجن بلا أي حساب، ورغم كل التعب.
المطاردة، النضال كاشف لحقائق أمهاتنا، أسرارنا ميتة، يحيينها إذا احتجنا نحن لذلك فقط!
يتبنين قضايانا، يؤمن بمسيرنا، يعادين أعداءنا، يبغضن من يسجننا ويلاحقنا.. يتعبن؛ نعم، ويحزن أيضا.. لكن لا أثر لشيء من ذلك، وهنّ يترضين علينا، ثم يسعين مجددا علينا، إلى السجون، والمحاكم، والمحامين، وربما الوساطات إذا كان الاعتقال لدى السلطة!
هذه هي الأم في نضالنا، ولكنها غائبة عن ذهن الفلسطيني الذي يعتقلنا، ويشبحنا، ويفتق جروحنا، ويرسم الندبات على وجوهنا، ويلقينا هياكل عظمية أمامها في الزيارة، أو لعلها حاضرة في ذهنه، ولكنه يعلم أنه يعذبها بعذابنا، ينتقم منها لأنها أنجبتنا، وتحبنا رغم كل شيء، وظلت تسعى علينا رغم كل شيء.