عندما اختطفت "سلطة المشروع الوطني" نصر عصيدة، وألقت به بعد حفلات من التعذيب في "سجن الجنيد"، كان لا ينام إلا على الأرض وحذائه تحت رأسه وكان يمضي نهاره وكأنه مستعدا للمغادرة فورا إلى الجبال التي كان يعيش فيها، رغم أن 3 سنوات مرت عليه هناك لم يتغير شيء في برنامجه اليومي.
قبل اعتقاله لدى السلطة كان نصر مزروعا كشجرة في جبال قريته تل قرب نابلس، وهناك تفتح وعيه وعرف أصل المعركة بعيدا عن كل ترف النقاشات الجانبية، وخبر السياسة والحرب وأن ممارسة السياسة والثقافة بشكلها الصحيح تحت الاحتلال ليست إلا المقاومة، فنفذ مع عدد من رفاقه عملية تمكنوا خلالها من قتل حارسي مستوطنة "يتسهار" القريبة.
في الانتفاضة الأولى كان نصر أحد كوادر فتح، ولكن مع توقيع اتفاقية "أوسلو" ترك نصر الحركة، أو لنقل هي تركته، فمشروعه كان بسيطا لدرجة التعقيد "قتال إسرائيل" حتى دحرها أو ترك ندبات على وجهها.
ما كان يلفت نظري على الدوام في قصة نصر أنه استطاع قهر كل شيء في بيئته، وتطوعيه للمهمة التي نذر نفسه لها، وهي مهمة ليست بالبسيطة أن تلاحقك كل هذه المخابرات وقوات الجيش من مغر إلى مغر وكل مغامرة للذهاب إلى بيت أو لرؤية والدتك قد تتحول لمعركة وحصار وشهداء.
روي عنه أنه صمد لساعات طويلة على شجرة زيتون لا يتحرك، وسط حصار من القوات الخاصة والمروحيات الإسرائيلية، وكل حركة منه قد يدفع ثمنها حياته، ولكنه بقي ثابتا إلى أن انزاحت قوات الاحتلال.
في المرات القليلة التي زرت فيها تلك المنطقة أو مررت منها بالأحرى، كنت أفكر أية زيتونة كانت تحمل نصر تلك الليلة وكتمت أنفاسها وخبأته عن أعينهم.
ودَّع نصر رفاقا كلهم شهداء: ياسر عصيدة، وفهمي أبو عيشة، ومحمد ريحان "الذي تم تصفيته أمام زوجته وأطفاله وترك ينزف حتى آخر قطرة من دمه، ونائل رمضان "الذي استشهد بينما كان يغطي على انسحابه"، وسامي زيدان الذي بقي جثمانه في الجبال ليومين بعد اشتباك مع حراس المستوطنات، وعاصم عصيدة، وغيرهم ممن لا أعلم.
استشهد نصر كما أراد دائماً بعد حصار طويل للمنطقة التي كان يختبأ فيها في أحد جبال منطقة قلقيلية، حتى انكشف مكانه ظهر يوم الثامن عشر من آذار "الشهر الذي اعتدنا أن تزهر فيه دماء كثيرة"، بعدما انكشف للقوة التي حضرت للمكان بعدما أطلق النار على كلب بوليسي كاد أن ينهشه فاشتبك معها وترجل وحيداً ومقاتلاً كما ولد وتربى.
كانت حياة نصر تجسيداً لمقولة "كن قريبا من عدوك يحسبك بعيدا"، وهو كان قربهم دائما برشاشه وعبواته ورفاقه وأشقاء قلبه، ولشعار باسل رحمه الله "عش نيصا وقاتل كالبرغوث".
اليوم في تل صار لنصر قبر يزوره أحباؤه بعد أن اختطفت جثمانه قوات الاحتلال لسنوات طويلة، في مقابر الأرقام ولا زال دمه يدوي في الجبال ويهز السكون.