شبكة قدس الإخبارية

أبوها أشرف منكم كلكم

مهند أبو غوش
إبّان مطاردتها، كتبت نورا أستروغا، المقاتلة الثورية النيكاراغوية، التي حزّت بالسّكين عنق جنرال الحرس الوطني بيريز فيغا (الشهير بلقب perro – أي الكلب، بسبب توحّشه في التعامل مع مواطنيه) ، رسالة إلى ابنتها قالت فيها: "نحن، وجميع الناس في نيكاراغوا، وفي أمريكا اللاتينية، وفي العالم بأسره، نعيش مرحلة مهمة جدا، من أجل الآخرين في كل مكان من هذا العالم. إن الثورة تنتظر التضحية من كلّ واحد منّا. أمّا  بخصوص وعينا: فإن عليه أن يحولنا إلى أفراد نموذجيين، لكي نتمكن من اجتياز هذه المرحلة قدر الإمكان" ماتت أستروغا عن عمر 39 عاما، أي أنها تكبر الآن، باسل الأعرج بثمانية أعوام لا غير. لن أتحدث هنا عن مواطن الشبه بين الأعرج وأستروغا. بل عن الشبه بين رسالة أستروغا وبين مقطع فيديو نشرته الأجهزة الأمنية، تظهر فيه طفلة تقول لنا فيه بأن أباها يعمل في الجهاز الأمني للسلطة وبأنه "يحب جميع الأطفال، ويساعدهم"  كما أن هذا الوالد، غائب منذ أسبوع (أي منذ اغتيال الشهيد باسل الأعرج، على ما يبدو في إطار مهمته الأمنية)، وبأنها لم تره. بل وأن هذا الوالد يغيب في بعض الأحيان لفترات تزيد عن الأسبوع". الربط المنطقي بين فقرات مقطع الفيديو القصير يقود إلى الاستنتاج التالي: "يغيب والد هذه الطفلة لأسبوع أو أكثر من أجل أن يساعد الأطفال". كم هو لطيف! . هذه السردية قائمة وموجودة دائما: فغالبا ما ينظر الأطفال إلى آبائهم نظرتهم إلى الأبطال. وبالمقارنة ما بين رسالة أستروغا إلى ابنتها، التي وصفت فيها كل ما فعلته، قبل ذبح الكلب وبعده، بأنه "مجرد ممارسة للعيش في مرحلة مهمة من تاريخ نيكاراغوا والعالم". فإن ما يظهره مقطع الفيديو الفلسطيني يؤشر على أن الشرطي يخبر ابنته عن قيامه بأدوار بطولية غير واضحة في عمله، لتبرير غيابه الطويل عن المنزل. أقدس أعمال البطولة هي ما تتم، عادة، في الخفاء. هذه البطولات التي لا نسمع عنها والتي يقدّر لها أن تظل طيّ التاريخ. بطولات باسل الأعرج مثلا. من منّا يعرف تفاصيل مواجهة باسل قدره بشجاعة، خصوصا في اللحظات التي سبقت استشهاده؟ لماذا اختفى باسل ورفاقه قبل أن يلقي رجال أمن السلطة القبض عليهم في سهل عارورة؟ ما الذي حدا بوزير الدفاع الإسرائيلي إلى تسمية باسل الأعرج بالإسم ليتهمه بقيادة ذراع عسكرية؟ لن يعرف أحد هذا أبدا. هذا ما يقنع الشرطي به ابنته، إنه يمارس بطولة لا يتحدث عنها أحد، بطولة تتمثل في حب الأطفال، وفي الغياب عن المنزل لأسابيع طويلة. لكن بطولة الشرطي هنا قد صارت مُشهرة: إنه يغيب لأسابيع طويلة وهو يمارس حب الأطفال. لا أدري إن كان البطل أيضا واقفا يمارس بطولته يوم الأحد الفائت وهو مرتد للدرع الأسود في مواجهة مجموعة من الصبايا والشباب والعجائز أمام مجمّع المحاكم. لكن زملاء الوالد، الأبطال هم الآخرين قد وثّقوا بطولاتهم بالفيديو. وفي عملية نكران أسطورية للذات، جاء عدنان الضميري على التلفاز ليقول بأن كل هذه البطولات لم تحدث: لم يتم سحل الناس، لم يتم جذب فتاة من منديلها، لم يتم ضرب والد مفجوع بابنه وإذلاله أمام الكاميرات. إنها البطولة مكتملة الأركان. أمر شبيه بشعار جهاز الشاباك الإسرائيلي المرسوم على اللوغو الخاص به "نُدافع ولا نُرى". أحيانا، يكون الكذب على الأطفال ضرورة. فكيف سيقول والد هذه الفتاة لها بأنه قد اعتقل أو ضرب أو أهان البشر؟  بالمقابل، فإن الإبنة تعلم تماما أنه ما من اشتباكات مسلحة بين السلطة والجيش الإسرائيلي، فأين تتبدى بطولة الوالد؟ تحطيم بسطات الباعة المتجوّلين؟ تحرير مخالفات السير؟ القبض على اللصوص؟ إن كل ما سبق يندرج في إطار تنظيم السرقة في البلد.  ما يقوم به البابا البطل حقّا هو حماية الاحتكارات. احتكار رؤوس الأموال للمال. احتكار السلطة للعنف. احتكار الحزب الحاكم لدور عريف الصّف الواشي.  ولن نخوض في الليالي الطويلة التي يقضيها رجال الشرطة الفلسطينيين ساهرين على حدود المستوطنات، لكي يتمكن أطفال المستوطنين الأبرياء من النوم. إن ظلّت هذه السلطة في البلد خلال السنوات القادمة، وإن تمكّن الوالد الشرطي البطل من كتابة رسالة ذات يوم لابنته  فلعلّه سيكتب فيها "إبنتياه  الحبيبيه، نحنو وجميع العالم في محفظة رام اللهي، نعيش كافؤون خيرنا شرنا، من أجل الئخرين في كل مكان من هذه المحافظة. ئن الستقرار ينتظر التضحية من كل واحد منا. أما بخصوص وعينا، فعليه العوض ومنّه العوض، لكي نتمكن من اجتياز هذه المرحلة قدر الئمكان" ولا بدّ من أن ابنته  التي ستكون كبيرة آنذاك، ستردّ على رسالته بجذل شديد: إمنووووووّر !