كانت الأرض باردة بما فيه الكفاية ﻷن تتجمد أضلاع الجلادين جميعا قبل الضحايا... فيما المضحيّات أنفسهن مبتسمات رغم كل القهر...
هنّ المعتقلات في سجن كبير أو بعد انتظار يتبعه خطف وتعذيب .. الشهيدات بشتى وسائل الإبادة الجماعية .. إحداهن التي حضرت ميتة صغيرها جوعا، فيما الأخرى ودعت أشلاء الحفيد.
عن نساء الحصار في مخيم اليرموك أتكلم... كيف لي أﻻ أخجل من جداتنا الواقفات على حاجز الذل.. وذاك الليبرالي ابن رحمهن يصرخ بهن: "كونوا قردة خاسئين".... هو لم يقل ذلك صراحة؛ بل اكتفى برفع جدار فصل من الشبك والمعدن يستخدم عادة لحظائر الأبقار.. ﻻ لسيدات الكعك والعجين والأعياد... ويتبعه متعنتا "ملتئما" بالقول: "عنجد ما بتستحو إنتو"!..
أخجل من "ختيارة" سبعينية ألقاها ذاك الأرعن على الأرض بكامل هندامها الشعبي المقدّس! خالعا عنها ثوب الكرامة ومبدلا إياه بالأنين.. ظنا منه أن الجميع رخيصون مثله.
من ذاك الذي ﻻ يصلح أن يحرس "كشّة" حمام أو حتى سربا من الصراصير حتى أبصق في وجهه (تفه)؟.. وكيف لهذا الجهبذ أن يحرس مخيما وهو الذي باع سيدة الرجال في مزاد علني... وأما البطل على الضفة الأخرى فيحرمها سيجارة انتظار طابور المساعدات بدعوى أن المكان نقطة رباط!!... لماذا يتوجب عليّ أن أسامحهما بالإنابة عن سيدة المخيم والبلاد كلها!.
اللعين عينه حيثما وجد حاول التشويش على أسطورتي الأنثى... طلب منها ذات يوم (الرقص والدبكة والتبرج) مقابل كسرة خبز حقيرة علقها بسلك تافه على بوابة عاصمة اللاجئين الفلسطينيين... لماذا لم يفعل كل ذلك في أفراح البلاد؟.. وهل كان مطلوبا إلـيّ أن أصدقه في رفعه للعلم وحمله للسلاح؟.. ماهو المطلوب بالضبط!!.. وكيف لي أﻻ أخجل من أم شهيدين بقية أفراد عائلاتها نائمة تحت شواهد المقبرة العتيقة!...
أولئك الواقفون على مدخل المثلث متساوي الساقين... لا يعلمون سوى عبارة واحدة: "الجوع أو الركوع" .. باعتقادهم أن المسألة هي بعض طعام وشراب ومحفزات جنسية وحبوب وحشيش... هم أسوأ من إدراك الأمور كما كانت عليه فعلا..
المشهد الكلاسيكي في مخيم الحكايا أن تشاهد امرأة _في يومها اليومي ﻻ العالمي_ تجرّ عربة وتتجه إلى خطوط التماس لتبدأ فترة الأشغال الشاقة..... تكسير خشب وجز حشائش أهمها "رجل العصفورة" التي تأبى البهائم أكلها! ... رصاصات القنص وقذائف الحقد تترامى من كل جانب.. لا ماء ولا دواء ولا حتى حذاء.. لتعود الأمّ مع كثير من "الكراكيب" وقليل مما يسد الرمق...
أن تمثل سيدة الأرض دور الطبّاخة أمام صبيانها الجياع تحت حصار "الألف ليلة وليلة" فيما الطناجر والصحون خاوية على عروش الطغاة... أن تضمد جراح حفيدها الرضيع المصاب بشظايا القصف.. لا بدّ من الخجل قليلا هنا...
سيدة المكان ليست حكرا على صغارها.. فرحمتها والعطف عمّ جميع المحاصرين .. حتى قطط الحيّ الجائعة شعرت بذاك الحنان...
طرود المساعدات المقدمة من الأونروا والمؤسسات القائمة على جوع سيدة الأرض، أثقل وزنا من سيدتي بعد تآكل عضلاتها والعظام ..
في ذاك المخيم، ولد جيل كامل ﻻ يعرف ماهو "الكوكتيل موز بحليب" لولا أتعاب الأمهات... لتسرق قذيفة الهاون رأس ربّة المنزل العائدة بطرد الطعام اللعين، حين كانت تطهو ما حرم الأبناء منه أشهر خلت، وليتبين فيما بعد أن أكياس الرز والعدس وقنينة الزيت النباتي تغار جميعها من أنثانا وتمكر لها!
تلك السجينة في المخيم ﻻ تعلم شيئا عن سجينة قلبها التي اقتيدت إلى المجهول بعد أن كانت سيدة حصار مثلها.. لم تعد تتذكر غير الاسم وبعض الذكريات الطيبة.... ابن لها في تلك الدولة وآخر في جزيرة معزولة والثالث محتجز في المطار... قلبها المتلهف عابر للحدود عطفا على جميع النازحين ...
وبالإنابة عن سيدات الإسعاف والإغاثة الجوالات على الدراجات الهوائية لإنقاذ المصابين: "مابال الرجال حتى لا تدمع عيونهم إزاء المشهد الشاعري... ومن هي هذه الأمم التي تختصر سيدات الحصار في يوم واحد؟!.. ... هل يعلم صاحب اليوم العظيم أن إحداهن أمضت ألفا وثلاثمائة وستين يوما في الحصار... ألديه أدنى فكرة عما فقدت وما أصابها!؟"...
سيدات الحصار أعمق وأدق... هنّ جفراوات وظريفات الطول متشبثات بالتراب... كان لزاما بي أن أطأطئ رأسي مع تذكر أن إحداهن تنتظرني رؤيتي عريسا على حافة قلبها المكسور.
وسيدة الحصار من جميع الأعمار والفئات... طفلة كهلة وفي الثلاثينيات والأربعينيات .. أم، حبيبة عشيقة عانس وأرملة... طبيبة مهندسة ومربية شهداء مثفقين... بسيطة واضحة كما ضوء الشمس ونقية كما ثلج القطب..
تجيء من بعيد وتضع نفسها في نبض مخيمها .. هي لا تمتنع حتى عن الموت في الربيع أو فراق الحبيب شهيدا في يوم ميلادها.
أكرر أنها كانت تجز حشائش الأرض.. ولا أخفي أن أبناءها رافقوها مرات عدة لتناول وجبة الأعشاب الضارة قبل أن تسبقهم إليها المواشي والدوابّ.. فحراس المخيمات ﻻيميزون بين قطيع البهائم وحشد الجماهير التي حملت شهداء حصار بيروت ومعركة الكرامة.
يا إلهي كيف لسيدتي أن تتحمل الليبراليين المتطرفين على المداخل والعقائديين المتشددين في الداخل!... كيف لها أن تستوعب كل التناقضات والمزايدات سيما وأن علاقتها بالحياة عن طيب خاطر!... طبخاتها الغنية وكلماتها الوديعة تؤكد أنها الأكثر قدرة على حماية صيصانها الصغار.
تلك التي ودعت ابنها بالحناء والأهازيج والبكاء... هي حارسة المخيم وحدها.. وأولئك الداخلون الخارجون الواقفون المتربصون على مفارق حاراته وعند مداخله المقيتة.. أقل أن يكونوا شاخصات تفضح خطاياهم للصبية المحاصرين والإناث.
نساء الحصار من تربة الجنة فلا يحق لي البوح أكثر عنهن.. يمكنني فقط استذكار شيء منهن حتى يصير الاسم الحقيقي لتلك المناسبة العالمية بامتياز؛ "يوم سيدات الحصار".