«إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء احترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت، وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضاً بذل من طراز صاعق». [الشهيد الشاهد، غسان كنفاني، في رسالته إلى غادة السمان]
صارت هذه الجملة تشير إلى المرارة التي مررت بها بعد سماع نبأ استشهاد الرفيق الحبيب مولانا باسل الأعرج. واختزلت هذه الجملة «معاني العجز والضعف والشلل» الذي عانينا منه، فقد كان مولانا باسل الأعرج محقاً، حين قال: «بدك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك ما بدك مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك».
باسل الذي درس الصيدلة، وتعلم كيف يداوي الأمراض في الجامعة، وعمل صيدلياً، استطاع تشخيص مرض الشعب، واخترع الوصفة الطبية الناجحة، فتحول إلى باسل المنقب في الذاكرة الفلسطينية، فهم لغة الأرض، سار على خطى الأنبياء والقديسين، عرف السهول والوديان، درس جغرافية الريف، صعد الجبال، نظم الرحلات الميدانية لمجموعات شبابية متنوعة وثق لهم أحداث ومعارك خاضتها المقاومة الفلسطينية.
قرأ تجارب المقاومة في زمان الاحتلال البريطاني، أدرك أن «حرب العصابات»، هي الطريقة المثلى لاستنزاف العدو. وكان يردد أن «المقاوم قاطع طريق بمشروع سياسي». كان شعاره في الحياة والممات: « ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة».
باسل سبب صداعاً مزمناً لسلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود، فكان أحد ابرز المنظمين للمظاهرات الشعبية الداعمة لمقاطعة العدو الصهيوني والمنددة بالاستيطان. ومن ابرز المظاهرات التي شارك فيها باسل، الاحتجاج على زيارة المجرم شاؤول موفاز، عام 2012، حيث تعرض للضرب على يد أمن «دايتون - عبّاس»، وأصيب على أثرها بجراح. إلا أن الناطق الرسمي باسم أجهزة دايتون عدنان الضميري نفى الاعتداء على باسل في لقاء تلفزيوني جمعهما، وهدد الباسل!!
اعتقل باسل في مارس (آذار) 2016 بتهمة التخطيط مع خمسة شبان آخرين لتنفيذ عملية ضد العدو الصهيوني، قضى باسل ورفاقه داخل سجن (مسلخ) أريحا التابع لسلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود خمسة أشهر، تعرض خلالها للتعذيب والشبح والشتم والتهديد.
سرعان ما قرر باسل ورفاقه الإضراب عن الطعام، وتحت الضغط الشعبي اطلقت السلطة سراحه مع رفاقه، وسرعان ما اختفى باسل عن الأنظار، فقد اختار الباسل ان يكون مطارداً للعدو على أن يجلس في منزله في انتظار الاعتقال.
ولأن باسل «قاطع طريق» بمشروع سياسي، اختار انسب مكان للاختباء، وهو شقة سكنية بجوار مقر قائمقام المقاطعة عبّاس، فمن يخطر بباله أن المطارد من العدو الصهيوني يسكن بجوار قائد التنسيق الأمني.
وفي فجر 6 مارس (آذار)، اقتحمت الآليات الصهيونية مدينة البيرة، وتوارت عن الأنظار قوى الأمن الفلسطينية، وبدأت القوات الصهيونية في الاشتباك مع الباسل، وسرعان ما بدأ إطلاق النيران من داخل الشقة السكنية، فالباسل «قاتل كالبرغوث».
ارتقى الباسل شهيداً على بعد أمتار من مقر المقاطعة، ممسكاً سلاحه بيده، رافضاً الخنوع، صارخاً «هيهات منا الذلة»، فيما حاكم «المقاطعة»، مشغول بسماع المطرب «الإسرائيلي» ميشيل الياهو، والرقص على أنغام التنسيق الأمني «المقدس».
ارتقى مولانا باسل، تاركاً خلفه بندقية فوهتها تعانق السماء، وحذاء مقلوب في وجه التنسيق الأمني «المقدس»، وكتب ومصحف مضرجة بدماء الشهيد، وكوفية تتشح بالسواد، ووصية خطت بقلم أزرق، مختصرة، معقدة، بليغة.
رحل مولانا الباسل تاركاً لنا أحجية في متن الوصية، عندما خاطب الأحياء بالقول: فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم؟!