نتهي الحرب عندما يهزم العقل، فاذا دخلت الهزيمة العقل فأعلن انتهاء الحرب، ويبدأ الظلم بالتفشي عندما يقدم المظلوم التنازل بإعطاء السلطة للظالم, السلطة على عقله , تلك السلطة يمنحها العقل البشري ويبدأ بإعطاء مبررات للجسد لتقديم التنازلات الواحدة تلو الاخرى , الى ان يصل به الحال لقبول الوضع القائم ويبدأ ببناء فلسفة جديدة تسمى بـ العقل الكولينيالي او عقل المظلوم او عقل المضطهَد , وتتجلى اهم معالم هذه الفلسفة بالشعور بالدونية واعطاء مبررات مقنعة لقبول الظلم واهانة الكرامة , ويعتبر هذه النوع من التفكير اقوى سلاح للظالم , ويتطور هذا النوع من التفكير مع الوقت وقبول الواقع والانخراط في المنظومة الى استلهام وعي المضطهِد او كما وصفها مالكولم اكس ب(زنجي البيت ) بحيث يبدأ هذا المظلوم باستخدام لغة ومصطلحات الظالم ويبدأ بالتشبه بشخصية وشكل الظالم لاعتقاده بأن اقصى درجات الحضارة هو شخصية هذا الرجل ( ظاهرة سماع الاغاني العبرية هي ظاهرة حقيقية معبرة عن استلهام وعي المضطهِد ) ,ولاحقا يتطور هذا النوع من الاستلهام الى درجة يصبح فيها المضطَهد يستخدم مصطلحات مثل ( نحن , عندنا , النا )في حديثه عن سيده( حدث اني قابلت شاب تأثر جدا بالثقافة الصهيونية فكان كل موضوع نتكلم فيه يستخدم جملة احنا عنا في الدولة ).
حاول الاحتلال الصهيوني كثيرا زراعة هذا العقل وتغذيته في المجتمع الفلسطيني , الا انه فشل الى حد ما في تعميم هذا العقل على كامل المجتمع , فكان مما منع استفحال هذا العقل في المجتمع مقصودا حينا وغير مقصود احيانا كثيرة , فوقوف الشاب او الطفل او الشابة امام الجندي المدجج بالسلاح ورفض اوامره وحتى السخرية منه وعدم الانصياع له يعتبر خطوة من خطوات تحرير العقل من تلك السلطة التي منحناها لهم عبر بناء اصنام لهم في عقولنا , اصنام لجندي لا يقهر.
وتتجلى اعلى لحظات التحرر من هذا العقل في السيطرة الكاملة على السلطة الذاتية , تلك السلطة التي لا يستطيع احد ان يجبرك على شيء لا تستسيغه مثل المأكل والمشرب والملابس والقول والعمل والموقف .
قابلت في حياتي شخصين استطاعا ان يقدما نموذجا رائعا في الرقابة الذاتية على تلك السلطة الشخصية واستطاعا التمرد على السلطة وقوانينها بطريقة مبدعة .
1- عوني ابراهيم الشيخ : يعتبر عوني الشيخ احد السباقين للعمل الوطني والمنضمين للقوميين العرب ( عندما عاد الشهيد ابو علي مصطفى الى الضفة الغربية وزار مدينة بيت لحم طلب ان يقابل هذا الرجل بصفته معلمه ) .
قضى فترات ممتدة من عمره في السجون السورية والاردنية ورفض التنازل عن مبادئه , بعد احتلال القوات الصهيونية للضفة في 1967 رفض حمل الهوية الاسرائيلية ورفض التعامل بعملة الشيكل نهائيا لهذه اللحظة واستطاع ايجاد بدائل عن استخدام الشيكل باستخدام العملة الاردنية مع بقالة اتفق مع صاحبها ان يحاسبه اخر الشهر بالدينار , واستقال من وظيفته كمعلم مدرسة لرفضه تدخل الحاكم العسكري بالعملية التعليمية واشترى بعض من الاغنام وبدا يزرع طعامه واحيانا يقوم باعمال البستنة من حفر للارض وغيرها لبعض الجيران.
في عام 1968 استدعاه الحاكم العسكري لمنطقة بيت لحم وسأله لماذا لا يحمل الهوية , اجابه بان في حمل الهوية اعتراف "بعصابات شيكاجو التي حالفها الحظ " لان تصبح دولة , فسجن لمدة 150 يوما قضاها مضربا عن الطعام ورفض التنازل عن مواقفه.
يعيش الان في بيت معزول في قرية الخضر في محافظة بيت لحم .
2- الدكتور ابراهيم القادري : يعتبر الدكتور ابراهيم من رواد العملية التربوية في فلسطين , حيث انه كان يحمل في عام 1948 لقب الماجستير من احدى الجامعات الامريكية , تبوء عدة مناصب اكاديمية اخرها كان عميد كلية الآداب في جامعة القدس وتركها بعد خلاف مع سري نسيبة وحتى انه رفض التكريم .
عند احتلال العصابات الصهيونية للضفة الغربية كان يدير معهد العروب الزراعي , بعد عدة ايام من الهزيمة طلب من المعلمين والطلاب في المدرسة العودة للانتظام بمقاعد الدراسة , وقام بتقسيم ما تنتجه مزارع المعهد على المعلمين والطلاب ليتعاشوا منه كبدل للمخصصات التي كانت الدولة الاردنية تدفعها .
قامت قوات الاحتلال بأمره بإغلاق المعهد الا انه رفض الانصياع للأوامر , فتم اعتقاله عدة مرات ومن ثم حاولوا اغتياله الا انه صمم على المضي قدما في القضية التي تبناها , وقام بمراسلة مدراء المدارس في الضفة وحثهم على الانتظام في العملية التعليمية , بعد فترة قصيرة اصبحت كل الضفة الغربية منتظمة مجددا في العملية التعليمية مما فرض على الادارة المدنية التعامل مع عودة التعليم في الضفة كأمر واقع , فبدأت سلسلة من الاجتماعات بين وفد من المدراء والادارة المدنية .
يصف الدكتور ابراهيم مدى التشنج وكمية الصراخ المتبادل في تلك الاجتماعات , ويقول " في احدى الاجتماعات الذي عقد في بيت ايل , قام الحاكم العسكري للضفة الغربية بشدي بقوة من طوق قميصي صارخا ( انت لازم تموت , ولك انت اللي رجعت التعليم للضفة الغربية , انتوا حرام تتعلموا , انتوا لازم تظلوا رعيان غنم ) "
مما يذكر ايضا انه قام بتزويج بناته الثلاثة مانعا الغناء في بيته قائلا "كيف اغني واطرب وفلسطين محتلة ؟"
توفي الدكتور ابراهيم قبل سنوات قليلة في مدينة دورا .
هاذان نموذجان من الاف النماذج في مجتمعنا التي استطاعت اخذ مبادرات فردية ووضعت على نفسها التزام اخلاقي ووطني والتزمت به , فخذ لنفسك مبادرة والتزم بها ومن يدري لعل مبادرتك تصنع ثورة , فالثورة مبادرة فردية تبنتها جماعة ,حرر عقلك من تلك الاصنام بالبحث عن الحقيقة والتدريب العملي الميداني , ولا تنزع الى السلبية المطلقة والايمان التام بنظرية المؤامرة, وكما يقول سيدنا عمر بن الخطاب " كل مسلم ثغر من ثغور الاسلام , فإياك ان يؤتى الاسلام من قبلك " ويقول الشاعر ناهض الريس " كن درعا للثورة ولا تكن كعب اخيل لها " . *تدوينة نشرها باسل عام 2012 عبر الشارع العربي