لستُ بصدد الحديث عن السياسة، فدم الشهيد أكرم من ربطه بها، بلغنا خبر اغتيال المثقف المشتبك باسل الأعرج، ببالغ الصدمة لم أستطع الكتابة أمس، وأنا التي في طريق عملي كنتُ أمرّ بالبيت الذي شهد اشتباك المثقف، ولم أكن أهتدي لما خلف الجدران.
كيف مررنا كثيراً بجانب المنزل ولم نمتلك حاسة الفكر التي امتلأت جدرانه بها، وهي تستمع لباسل المثقف ما كان يقرأه، وأجزم أنه كان ينظر اليها كثيراً سارحاً منتظراً لحظة الاشتباك التي تحدث عنها كثيراً.
هذا الطريق الذي أمرّ به كل يوم كان أكثر انسانية من الذين اتبعوك وأوصلوا أخبارك لعدوك يا باسل، اليوم عندما وصلت مكان استشهادك نظرتُ للبيت، لحجارته القديمة، لأدراجه المتسلسلة، كيف فرّطتِ في الباسل أيتها الحجارة؟، كلا هي لم تفرط بك، هي احتضنتك حتى أنها توشحت بدمك وهو يقطر ليرسم لنا طريق الحرية، كل يوم سأعبر الطريق، سأنظر للبيت، سيتجدد ايماني بالشهداء كجسر للحرية، كل يوم سأعتنق فكرة أن المثقف إن لم يشتبك فليس مثقفاً ولا تنفعنا ثقافته.
مررنا على دار المثقف فردنا عن البيت ثقافة الاشتباك، بيت على طريق رئيسي لا تهدأ حركة المارة والسيارات فيه، كان البيت الذي جلس فيه الباسل شهوراً عدة، ربما قرأ باسل قاعدة عسكرية تقول "إذا أردتَ أن تتخفى فلا تتخفى" وعمل بها، منتصف المدينة التي تعجّ بالناس، الشارع على مفترق طرق، كنا كلنا نسير في اتجاهات مختلفة، ووحده الباسل كان محورًا ثابتًا، يبني الحياة التي أراد، حياة ثقافة الاشتباك حتى الشهادة.
ساد الشهداء ونام الأحياء، وفرغ البيت لسكونه غير المعتاد، ستشتاقك الجدران والكتب التي ارتوت بدمك، ستشتاقك العليّة التي اتخذتها وطناً يوم أن أحكم مَن في الوطن قبضتهم عليك، ستشتاقك بيت لحم وتعلن رام الله ألف عذر، فلم تكن رام الله يوماً أمك لتحميك، بل كانت ديارًا مستباحة من خائن أوشى لمحتلها عن مكانك، ما زلتَ يا باسل فوق الأرض، لذلك ما زلنا قلقين عليك، ونطمئن يوم أن تصل جوفها الذي قاومت لأجله حتى الرمق الأخير، حتى في آخر كلمة لك وأنت تكتب وصيتك مبتدأً فيها "بتحية الوطن".
جال في خاطري والدة الباسل، كنتُ كلما اتصلت بها عقب اقتحام الاحتلال المتكرر لبيتها في الولجة ببيت لحم، اسألها كصحفية "ماذا عن باسل"، تصمت وتجيب بذكاء كبير ووعي، والدته حتماً تعلم أن الخطوط الهاتفية مراقبة، وقبل كل شيء كانت تعلم أن شوقها لابنها ليس مدعاة الحديث عن أي شيء قد يضرّ به، فكنتُ أؤمن بعد كل اتصال أن الباسل خرج من رحم أمه على غير شاكلة ميلادنا جميعاً.
ثم يمرّ في ذهني أصدقاء باسل الخمسة الذين يقبعون الآن في سجون الاحتلال، شاركوه عذاباته في سجون الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وخاضوا معاً اضراباً مفتوحاً عن الطعام للتخلص من سجون ذوي القربى، حتى نالت يد الاحتلال من أصدقاء باسل أسراً، وعجزت عن أسر جسد الباسل، أتراهم كيف استقبلوا نبأ الاشتباك الذي حلم به باسل وبالتأكيد أخبرهم عنه، ماذا جال في خاطرهم، كيف استطاعوا استيعاب خبر كهذا ونحن أغلبنا لم يلتقي بباسل على أرض الواقع واكتفينا بلقائه عبر مشاهد الفيديو ومقالاته الثقافية المقاومة، ولم نصدق ما جرى؟!.
ومحطة أخرى من حياة باسل، التي كان من المفترض أن تحدث بعد أسبوع من الآن، محطة مثوله أمام محكمة رام الله لمحاسبته على "امتلاك سلاح دون ترخيص" ولكن باسل رخّص سلاحه بدمه، ليقول للمحكمة، ليس كل سلاح يحتاج الى ترخيص، ولا كل ترخيص سلاح متشابه، فبعض السلاح ترخيصه تنسيق أمني، وآخر ترخيصه بالدم، سيغيب باسل عن المحكمة شهيداً، ولكننا سنقول لهم أن السلاح الذي يشبه سلاح الباسل لا يخيفنا، بل هو مدعاة فخرنا وعزّنا، فلا تطلبوا منه ترخيصاً.
كل ما سبق عثرات تفكير لا تنظير، فالكلام بعد ما قاله الباسل بفعله عبثاً، فظل الشهيد باسلاً حتى عرج الى السماء، بثقافة الاشتباك، واشتباك المثقف، ليرسم لنا بدمه وثقافته وعي آخر، ودرب مقاومة عزّ اتباعها منذ سنوات.
باسل، يا مَن كنتَ نيصاَ وقاومت كالبرغوث، لروحك السلام.