الأحداث المتعاقبة على البلاد والعباد منذ مدة لم تغريني للكتابة، أو الإبحار كثيراً في حيثيات كل ما يجري، فيقال كلما أدركت الواقع أكثر ونظرت له بعمق، كلما زاد صمتك، ولا أنفي بعض بلادة الشعور التي تصيب الأرواح بعد كل فاجعة يتلقاها كلٌ منّا بحزن ثم بفتور ثم وكأن شيئاً لم يكن.
لم يكن قدرنا مأساوياً بالقدر الذي نعتقده نحن الفلسطينيون، كوننا ولدنا في بلاد محتلة وأراضٍ مسلوبة، وعُيّشنا أضيق من سُمّ الخياط، وآمالنا ومثاليتنا بالعيش الرغيد تعذبنا أكثر من الواقع نفسه، فلا جرم أن تكون أحد أفراد شعب محتل، تسمع صغيره وكبيره اذا تحدث بالاقتصاد تستحضر السياسة، واذا جال في الحياة الاجتماعية تجده يميل إلى السياسة في قوله وقصده، واذا تحدث عن فرص العمل تجده يُبحر في ميدان السياسة ويكفر بها، فيقول "غدانا سياسة".
عندما تسمع كلمة "غدانا سياسة" من أفواه السياسيين، فإنك ستتنبأ لحدث سياسي يطبخ على نار هادئة لا جرم ان له وقت الاستواء، ولكن لا تعلم ما اذا كنت انت نار الطبخ او لقمة الغداء السائغة، أو وعاء تحمّل النار، أو ،،، أو ،،، أو ربما وعاء سكب الطبخ، فالتجارب السياسية علينا تُجرى، والنتائج لغيرنا تذهب.
خذ مثلاً، خرجت علينا الأمم المتحدة بنيتها تعيين سلام فياض –رئيس الحكومة الفلسطينية الحادية عشر لعام 2007- مبعوثاً أممياً الى ليبيا، ولكن نظرة لتاريخ فياض في رئاسة الحكومة الفلسطينية، ستجد أن خطته الاقتصادية الثنائية، كانت سبب رهن الضفة كلها، ورام الله خاصة إلى البنوك والغرب، عبر القروض والمعاملات المالية التي جعلت الانسان نفسه رهيبة للمال!.
ثم تخرجت علينا الأمم المتحدة أيضاً بنيتها تعيين تسيبي ليفني –وزيرة خارجية الاحتلال الإسرائيلية السابقة- كنائبة لرئيس الأمم المتحدة، وكل دول العالم تشهد أن ليفني كانت من النساء الأوائل في قائمة نساء الموساد الصهيوني الذي نفذ عمليات اغتيالات واسعة ضد قيادات عربية وفلسطينية، فهل نسوة الموساد سيضبحن نائبات الأمم المتحدة!.
لنبقى في جغرافيا الموطن المقسم منذ سايكس بيكو الى اليوم، نشرت حركة حماس في غزة نتائج انتخابات مكتبها السياسي في القطاع، والتي أفرزت يحيى السنوار رئيساً لها، "فبُهِتَ الذي كفر" بهت الاحتلال الذي كفر بحقنا في أرضنا، وبهت السياسييون مقنعين مَن حولهم أن السنوار سيجرّ غزة إلى حرب وشيكة، كونه صلباً ويحمل عقلية وتاريخ مقاوم، وكونه أحد مؤسسي كتائب القسام، والذين بُهتوا من الشعب في النتيجة ما زالوا يصرّون على أن تحرير الوطن سيأتي بالحبر لا بالدم، وها جرّبنا الحبر في أوسلو وما تلاها، ماذا جنينا غير "تاريخ مذّل" نحن عيشناه، وعلى أطفالنا أن يحفظوه بعلقمه غداً!.
من خلال متابعتي لتعليقات الشارع الفلسطيني حول انتخاب السنوار، انتشرت مقولة "العالم يتجه نحو اليمين المتطرف، ترامب في أمريكا، ونتنياهو في اسرائيل، والسنوار في غزة"، اللذين آمنوا بهذا التعليق من أبناء الشعب الفلسطيني وتناقلوه كأنه التحليل الصحيح لما جرى في الآونة الأخيرة، حقاً كفروا بحقنا، اذ ساووا غزة المحاصرة بدول لعينة، وساووا مَن يطالب بحقه ويقاوم لأجل ذلك، ويحمل تاريخاً من العزّ المشرّف لنا كشعب، بمشرّعي الارهاب العالمي ومرتكبيه، ساووا السنوار الذي قاوم وأًسر وتحرر وعاد للمقاومة ايماناً منه بعدالة قضيته، بالذي أرهب العالم بالكره والحقد والقتل والتشريد، حقاً "بُهِتَ الذي كفر، فلم يدرك ماذا قال".
يُقال أعزائي القرّاء "عندما يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليس لحساب أمة، يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن، وينصرف للبحث عن مصلحته الخاصة" ككاتبة لهذه التدوينة من الضفة أدرك تماماً ما تعنيه حروف هذه العبارة، على الرغم من بزوغ أمل انتفاضة بعد كل عملية بطولية كان يقوم بها أبناء الضفة خلال العام المنصرم، إلا أن مصالح مَن يدير دفة الحكم في الضفة لا تتناسب مع اندلاع انتفاضة، وانظر حولك جيداً سترى حال أهالي الشهداء والأسرى، وسيخبرونك أن زهرات شباب أبناءهم قضت هباءً، لا يسألون الناس أجراً بكل تأكيد ويبغونه من الله، ولكن الواقع يفرض معطياته أيضاً، فأصبحنا نفكر مليّاً قبل قول أي شيء، أو فعل أي شيء يخدم وطننا..