فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: ما أن تسير بين جبلي جرزيم وعيبال حتى تبدأ باستنشاق هواء تكوينه شهامة وبطولة وفداء، توجهت بنا السيارة شمالاً نبحث عن منزل عاش أقسى لحظات الترقب والقلق والانتظار، بين الطبيعة الخلابة والسماء الملبدة بالتفسيرات والتوقعات وصلنا إلى قلعة عصيرة الشمالية المعروفة برجالها الصناديد ونسائها الماجدات.
وصلنا وتعرفنا على المنزل المقصود بفعل اكتسائه بأعلام النصر ورايات الفرح، وتفوح منه رائحة عطر الصبر وعنفوان المقاومة، لم نقرع باب البيت كونه مشرعاً بوجه الوفود المهنئة بسلامة عودة نسر عصيرة الشمالية التي عاد لها منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد حصوله على الأوراق التي تمكنه من العودة.
لململنا أنفسنا وصعدنا درج المنزل، في رحلة الصعود وجدنا الأسير المحرر بلال قادماً لاستقبالنا، فأحاط الصمت المريب أركان أرواحنا، حين كنا نعتقد أنا وزميلي سامي بعد عشرات الأسئلة التي داهمتنا أن بلال مشغول في أمر ما، وكم نحتاج من الوقت ونحن نبحث عن كم الأسئلة الهائل الذي لاحق تفاصيل قضيته.
استقبلنا بحرارة شديدة وقبلناه وعانقناه، وكان أول ما همس لنا "احيي إعلامنا الوطني الذي ما انفك يدافع عن قضايا شعبه العادلة، ووقف لجانب الأسرى في سجون الاحتلال في حربهم نحو كامل فلسطين، التي يشقون الليل للوصول إليها مرفوعي الجبين، وإننا حتما لواصلون".
جلس، وأسند ظهره إلى مقعده، قدم لنا القهوة، ونحن نطوع كافة حواسنا للاستماع للصوت الذي حاولت سنوات الأسر العجاف وأجهزة مخابرات الاحتلال كسره وطيه أو وتحويله لرقم، واستهل حديثه الذي لا زال يحشوه تعب إضرابه المفتوح عن الطعام رفضاً وكسراً لقرارات الاحتلال اللعين.
يقول بلال: "كنت طالباً في معهد قلنديا تخصص تكييف وتبريد، وبعد إقدام قوات الاحتلال على اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الشهيد القائد أبو علي مصطفى، جاءنا القرار بضرورة الانتقال من العمل التنظيمي إلى العمل العسكري وضرب أهداف الاحتلال بعنف شديد، حيث في ذات المعهد انتميت للجبهة الشعبية".
يضيف "تم تشكيل خلية عسكرية بهدف قطع الطرق على المستوطنين وجنود الاحتلال، وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الاحتلال، وكانت بندقية "كلاشنكوف" واحدة لدى أفراد المجموعة تتنقل بين مدينتي نابلس وطولكرم، يترأسها الشهيدان فادي حنني وجبريل عواد، اللذين اغتالتهم قوات الاحتلال عام 2003 في البلدة القديمة في مدينة نابلس".
نفذت الخليلة العسكرية التابعة لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى العديد من عمليات إطلاق النار ضد أهداف الاحتلال وأصابت العديد من جنود ومستوطنين الاحتلال، وفي ليلة من ليالي الشتاء، وفي مثل هذه الأيام، حاصرت قوات الاحتلال منزل بلال الكايد، الذي اضطر للتواجد في منزله بعد حادثة وفاة شقيقه، ليتفاجأ بمحاصرة كافة أنحاء البلدة بالطائرات والجيبات العسكرية التابعة للاحتلال.
كان يوجد في المنزل ليلة اعتقاله 14/12/2004 أكثر من 13 طفلاً، وعشرات النساء، ولم يتمكن من الهرب بسبب الكثافة الهائلة لتواجد الجنود في المنطقة، وبدأ الجنود بالمناداة عليه عبر مكبرات الصوت، استغل الوقت لإتلاف بعض الوثائق المهمة، واستطاع ترك رسائل لرفاقه المطاردين في مناطق ميتة كما تسمى، هم يعلموها جيدا.
استمرت مرحلة التحقيق مع الأسير المحرر بلال 90 يوما، وقام جهاز "الشاباك" بتحويل الرفيق بلال للتحقيق العسكري لمدة 8 أيام، تعرض أثناءه لكسر في يده اليمنى وشلع كتفه والآلام الحادة جداً في مفصل قدمه اليمنى لا زال يعاني من آلامها حتى اليوم، خلال تقييده على كرسي صغير لا يتجاوز طوله 10 سنتمتر وعرضه 20 سنتمتر.
ويضيف "حضرت بنت وزير سياحة الاحتلال "رحبعام زئيفي" لمركز تحقيق مجدو للتحقيق معي بشكل شخصي، وكان ضباط الاحتلال يقولون لها "هذا من الذين قتلوا والدك"، وتنقل كايد في عدة مراكز تحقيق، ولم تستطع كل أساليبهم الوحشية انتزاع اعترافات تدينه، وبقي محافظاً على أسرار الرفاق كما تؤكد لائحة الاتهام الموجهة بحقه.
ويروي الرفيق بلال لـ"قدس الإخبارية": "بعد انتهاء التحقيق العنيف معي تم نقلي إلى سجن مجدو، كانت الأوضاع مزرية جدا، أسرى بلا مأوى ودون حالة ثقافية أو تنظيمية وإدارية، بسبب الكم الهائل للمعتقلين الجدد في خضم الانتفاضة الثانية، والأسرى القدامى متعبون من خذلان الفصائل والتنظيمات لهم".
يتابع "بدأنا بالتفكير بشكل معمق للنهوض بحالة الحركة الوطنية الأسيرة، كانت تتم اجتماعاتنا خلال انتظار زيارة الأهل، وبدأ الرفاق بنسخ الكتب وإرسالها لأقسام خالية من المكتبات، والخطوة الأولى كانت تأسيس مكتبات متواضعة في الأقسام التي يتواجد بها أسرى الجبهة الشعبية، وخضنا 11 اضراباً عن الطعام لتحقيق المنجزات والمكتسبات الوطنية".
ما أن يبدأ الأسير بالتزود بالعلم والثقافة حتى تقوم إدارة مصلحة السجون، وبتوجيهات من جهاز "الشاباك" بنقله وقمعه وربما عزله لوحده ومنع إدخال الكتب عليه، وتحديد بعض الأنواع في حالات إصرار الأسير يقول بلال لمراسلنا "بعد ترتيب الأوضاع الثقافية والإدارية في سجن مجدو تعرضت للعزل لمدة 4 شهور فيه".
حددت إدارة مصلحة السجون لبلال عناوين الكتب المسموح إدخالها له وقراءتها، واقتحمت وحدة "المتسادا" المتخصصة بقمع الأسرى الفلسطينيين وصادرت كافة الكتب الموجودة في غرفته، علماً أن بلال استطاع إتقان اللغات الانجليزية والعبرية والألمانية والروسية ويتحدثها بطلاقة، وبعد عامين من دراسته في الجامعة العبرية قام جهاز "الشاباك" بحرمانه من مواصلة تعليمه.
حرمان بلال من التعليم حوله لمدرس للأسرى المسجلين في جامعة القدس المفتوحة، وكان يدرسهم مواد إحصاء 1 وإحصاء 2، ولغة إنجليزية 1 ولغة إنجليزية 2، بالإضافة لتأليفه 7 كتب في مواضيع فكرية وسياسية واقتصادية مختلفة، وتأليفه كتب للشعر والنثر والروايات، ويعتزم على طباعتها ونشرها لاحقاً.
الانقسام والأسرى
وقال: "الانقسام الفلسطيني أثر على وحدة الحركة الأسيرة وحالها، واستغلته سلطات الاحتلال بما يتوافق مع أجنداتها وأهدافها في تفتيت وحدة الحركة الأسيرة، وعزل الأخوة والأقارب بحجة انتماءاتهم السياسية، وهذا يؤدي بالطبع إلى إفشال الإضرابات الجماعية التي تقودها الحركة الأسيرة بسبب تفرد الإدارة بالحركة الوطنية الأسيرة، وعززت مفاهيم "الشلليلية والبلدية".
يقول بلال لمراسلنا "تعرضت إحدى أخوات الأسرى للتفتيش العاري أثناء الزيارة، ودخلت قاعة الزيارة وهي منهارة بالبكاء، وانضممت أنا وشقيقها لها بالبكاء بعد علمنا بالسبب، جن جنوننا، وقمنا بحرق قاعة الزيارة بعد مغادرة الأهل لها، واستطعنا إرغام ضابط السجن بتقديم الاعتذار لها، وطلبت منها أن توبخه وتبصق عليه وبالفعل فعلت كرد معنوي لها".
ويضيف "صحيح أننا كنا معتقلين ومقيدين من أيادينا وأقدامنا، لكننا كنا نرفض الاستهانة بالحركة الوطنية الأسيرة مهما ساءت حالة الوحدة الوطنية، في إحدى المرات تعرضت الأسيرة صمود كراجة للاعتداء من قبل أحد ضباط السجن، توعدته بالرد على جريمته، وضربه بين جنوده وحراسه، ورفضت ضربه داخل غرفتنا".
ويتابع "أخبرتني الإدارة بنقلي لسجن آخر، فقمت بإخفاء شفرة حلاقة تحت قميصي،وأثناء مروري في غرفته، بدأ يسألني عن تهديدي له، فطلبت منه إزالة الأصفاد من يدي وسترى، وبعد فكها أخرجت الشفرة وجرحت وجهه بطول 7 سنتمتر، لينهالوا علي بالضرب الشديد وأنا أضحك وأردد على مسامعهم "صمود كراجة بتسلم عليك".
الإداري وبداية الإضراب
حزم الأسير بلال كايد بتاريخ 12/6/2016 حقائبه، وحمل ذكريات 14 عاما ونصف مع خيرة المقاومين والمناضلين معه باتجاه الحرية، يقول: "سلمت عليهم والدموع تنهمر من عيناي، ودعتهم على أمل اللقاء الأكيد بهم تحت شمس الحرية الأكيدة التي ستبزغ على كامل فلسطين ذات يوم خفاقة بالعدالة والحرية والنصر لشعبنا العظيم".
يتابع: "تم تأخيري للساعة الرابعة عصراً، لتبلغني لاحقاً محاميتي بقرار تحويلي للاعتقال الإداري لمدة ستة شهور، وأخبرتني أن أهلي بانتظاري على الحاجز لإكمال مراسم التحرير، وطلبت منها أن تنقل رسالة لأمي أدعوها فيها للبقاء قوية وأن لا تسقط دمعة واحدة، فدمعتها ستكسرني، وأنا سأدخل في إضراب مفتوح عن الطعام".
ويضيف، "امتنعت عن تناول الفيتامنات بشكل مطلق أثناء إضرابي، على الرغم من سماح قانون الاحتلال للمضرب بتناولها، وفي اليوم الأربعين لإضرابي خففت من شرب الماء من لتر ونصف إلى نصف لتر، وتناول خمس غرامات ملح وعشرة غرامات سكر، وخسرت 41 كيلو غرام من وزني بعد انتهاء إضرابي".
ويتابع: "طالبني الأطباء بالتوقيع للسماح لهم بإعطائي التغذية القسرية لأنني دخلت في مرحلة اللاعودة والخطورة الشديدة، رفضت ذلك مطلقاً، لأننا لم نكن نخشى الموت أثناء إطلاقنا للنيران والاشتباكات المسلحة مع قوات الاحتلال أثناء الانتفاضة، ولا يجوز لنا أن نتراجع أو ننكسر اليوم".
طالبت إدارة مصلحة سجون الاحتلال الأسير بلال في اليوم الستين لإضرابه بضرورة توجيه رسالة لمطالبة جماهير شعبه التخفيف من فعاليات الدعم والإسناد والتضامن معه، وطالبوه أيضا بضرورة كتابة وصيته الأخيرة لأنه بقي ساعات قبل انتهاء حياته، ليخبرهم أنه كتب وصيته وباتت بيد شعبه.
الانتصار والتحرر
لا يخفي بلال أن نصره في إضرابه عن الطعام هو تتويج لاحتضان شعبه له، ومساندة أكثر من 230 أسيراً مضرباً عن الطعام معه، وعبر عن اعتزازه وافتخاره بهم، وأن رسائل التضامن معه كانت تصله عبر الصليب الأحمر والمحامية فرح بيادسة، التي اعتبرها ركنا أساسيا في انتصاره.
يقول بلال: "بعد 74 يوما من التعب والإعياء الشديد وفقدان التركيز والنظر وحالات الهزل والوهن وعدم القدرة على الحديث والنطق وتوقف أعضاء جسمي عن الحركة، وبضغط جماهير شعبي والمحاميين والفعاليات التضامنية انكسر قرار الاحتلال ووقعت محاميتي بعد التأكد من صيغة الاتفاق، غير أنني لم أفك إضرابي".
ويوضح، "طالبت إدارة مصلحة السجون بإسقاط كافة العقوبات المفروضة على الأسرى الذين تضامنوا معي، وإلغاء كافة أشكال العقاب من حرمانهم من الزيارة وفرض غرامات مالية عليهم، ولم يوافق في البداية وأخبرته أنني مستمر بإضرابي حتى الإلغاء، وعند الساعة 12 منتصف الليل انصاع لمطالبي وتناولت أول كوب ماء".
يعتبر بلال أن وجود الثلاثة أشهر الأخيرة من أسره في السجن هي مرحلة كافية للعودة بنشاط وحيوية وصحة قوية، ليحتضنه شعبه ويستقبله استقبالا يليق بالمقاومين، ولا يريد أن ينظر له شعبه بعين العطف والشفقة، ولفت كايد أن الاستقبال الذي تم له في بلدته عصيرة الشمالية كان رسالة واضحة على خيار المقاومة في مواجهة الاحتلال.
يقول بلال: "أخبرني ضابط "الشاباك" أنه سيتم إطلاق النار عليه في حال اندلاع مظاهرات على الحاجز، وكان الجنود في سيارة "البوسطة" الخاصة بنقل الأسرى يتحدثون باللغة العبرية أنه يجب إعادة بلال للسجن، قابلتهم بالضحك، وبعد وصولي للحاجز قاموا بسحب أقسام بنادقهم لتخويفي بعد نزولي من السيارة، ومشيت كشعبي مرفوع القامة".
يتابع، "شعرت أن أصوات الأقسام موسيقى الوفاء للتراب الذي وقفت عليه مطاردا وملاحقا أوكار الاحتلال ومستوطنيه، ولم أفكر للحظة بالتراجع أو النظر بعين الخوف إلى الجنود"، ولفت بلال أن عناقه وارتماءه في حضن والدته أذاب الألم والمعاناة وأنها لحظة النصر الحقيقية على سنوات الأسر الطويلة".
وختم بلال اللقاء بشكره واعتزازه بشعبه العظيم، وفي وقوفهم لجانب قضيته، ولفت بلال إلى وجود إهمال طبي ممنهج ضد الأسرى، في غرف تعاني من رطوبة وعدم تعرضها لأشعة الشمس، وترفض الإدارة التعامل مع الحالات المرضية إلا الشديدة الخطورة، وترفض الإدارة الكشف عن أسماء وأنواع أمراض الأسرى.
https://youtu.be/ugm5V3viekg